حسن الحو يكتب: هل يغضب الإله؟
القابعون في مملكة الرعب التي يقف على أبوابها “منكر ونكير”… لن تجدهم دعاة فرح ومحبة، فكيف سيفرح من تنتظره نيران تستعر، وجحيم تنادي هل من مزيد؟ وكيف سيزيل شملة الأحزان ويكسر صقيع الخوف من لا يأمن المكر وسوء الخاتمة، وكيف سيتحرر عقلٌ ليسأل ويشك وينتقد وهو مرتهن لمستقبل مجهول…
لقد آن الأوان لإعادة النظر في الفهم الظاهري للنص المقدس وجعل المحبة والسلام والسعادة والعقل والمنطق وحقوق الإنسان هي المقاصد التي تُؤَوَّلُ كل آية لتوافقها.
السردية الدينية، في جميع الأديان الإبراهيمية، صورت الإله في صورة إنسان بأدق التفاصيل الإنسانية، أو في صورة إنسانٍ ملك شديد المُلوكية، يحب المدح والتعظيم والثناء، ولا يمكن أن تحاوره حوارا عاديا ملؤه الحب وتفضي له ببثك وحزنك وتعلق على رحمته آمالك دون أن تؤدي له فروض الولاء والطاعة، وتقدم بين يدي دعائك مدحا وصلاة وصدقات وقرابين؛ حتى يكون دعاؤك مستجابا!
لقد تفننت هذه الديانات في وصف كل مقتضيات المُلك المادية واستطردت في ذكر أدق تفاصيلها: فالمَلك له عرش عظيم وسع كرسيه السموات والأرض، وله حجاب من نور، وحوله الملائكة بين حامل لأركان العرش وساجد بين يديه وحارس لأبواب السماء، مَلك أُضفِيت عليه كل الخصال الإنسانية من عزة وجبروت، وكبرياء وغضب، وانتقام وكره، ووعد وعيد…
هل يغضب الإله إذا نزهناه عن صفات التكبر والمكر والاستدراج وخاطبناه كصديق وأخ وأنزلناه منزلة الأم الحنون عوض صورة الملك الجبار المنتقم التي طغت على كل صفات الرأفة والرحمة؟!
المؤمنون بتعاليم هذه الأديان إذا خاطبوه، فكأنما يخاطبون ملكا من ملوك الأرض، فتراهم قد علاهم الوجل واقشعرت منهم الجلود وأهرقوا من رهبته الدموع.
قال البزارُ في مناقب ابن تيمية: “كان إذا أحرمَ بالصلاةِ تكادُ تتخلَّعُ القُلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام، فإذا دخلَ في الصلاة ترتعد أعضاؤُه حتى يَميل يمنةً ويسرة“.
إذا كان الانسان يبحث في الدين عن الراحة والطمأنينة النفسية وعن الأنيس الذي يخاطبه كما يخاطب أمه، فكيف سيجد الراحة في اللجوء الى جبار السماوات والأرض شديد العقاب الذي لا يُؤْمَن مكره حتى وإن كان أرحم الراحمين؟
جاء في الأثر أن من أكبر الكبائر، الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله. لقد استوطنت هذه الصورة المشوهة للإله العقلَ المؤمنَ وحولته لكائن مرعوب من سوء المصير خائف من عذاب القبر يخشى الدوائر في الدنيا قبل أهوال الآخرة، ينتظر الجواز والسلامة من الثعابين والصراط والكلاليب ودركات من تحتها دركات من العذاب المهين.
بكَى بعضُ الصحابةِ عندَ مَوتهِ، فسُئلَ عن ذلكَ فقالَ: سَمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: «إنَّ اللهَ تعالى قَبَضَ خَلْقَهُ قَبْضَتينِ، فقالَ: هؤُلاءِ في الجنَّةِ، وهؤلاءِ في النارِ»، ولا أدرِي في أيِّ القبضَتَينِ كُنتُ؟ وقالَ بعضُ السلفِ: ما أبكَى العُيُونَ ما أَبكاها الكِتابُ السابقُ. وقالَ سُفيانُ لبعضِ الصالحينَ: هلْ أبكاكَ قطُّ عِلمُ اللهِ فيكَ؟ فقالَ لهُ ذلكَ الرَّجُلُ: تَرَكَني لا أَفرَحُ أبَداً، وكانَ سُفيانُ يَشتَدُّ قَلَقُهُ منَ السوابقِ والخواتيمِ، فكانَ يَبكِي ويقُولُ: أخافُ أنْ أكونَ في أُمِّ الكتابِ شَقِيَّاً، ويَبْكِي، ويقولُ: أخَافُ أنْ أُسْلَبَ الإيمانَ عندَ الموتِ“.
الخوف إذا سيطر على العقل، أوقف الإبداع وألجم الأسئلة، فالخوف نقيض الحرية ومرادف للاستعباد النفسي.
منذ أن تغلغلت هذه الصورة المرعبة في وجدان المعتقدين، قطعوا كل صلة لهم مع الحاضر والمستقبل، وجلسوا خائفين مرضى برهاب السعادة “الشيروفوبيا”، في انتظار النجاة من اليوم الموعود، مرتهنين الى كتب صفراء يحرم مساءلتها وإلا غضب الإله وحلت عليهم اللعنات.
فهل يغضب الإله ممن انتقد استعباد البشر وبيعهم كالخرفان في سوق النخاسة؟
وهل يغضب الإله إذا اعتنق أحدهم دينا غير دين طائفته فيحكم بردته محللا دمه وعرضه؟؟!
وهل يغضب الإله إذا رأى أحدهم أن رجم النساء وسمل العيون وقطع الأيدي والأرجل من خلاف شرائعٌ عفا عنها الزمن، وأن دولا شعوبها على رأس سلم السعادة والرفاهية دون حدود وأشلاء ودماء؟!
وهل يغضب الإله إذا نوقشت أحكام كتابه بعقل ومنطق ومراعاة للسياق واللحاق وهو القائل أفلا يتدبرون؟؟! أفلا يعقلون؟؟!
وهل يغضب الإله إذا نشرنا ثقافة الحب والمودة والإخاء عوض عقيدة الولاء والبراء؟؟!
هل يغضب الإله إذا رأى أحدهم أن رجم النساء وسمل العيون وقطع الأيدي والأرجل من خلاف شرائعٌ عفا عنها الزمن، وأن دولا شعوبها على رأس سلم السعادة والرفاهية دون حدود وأشلاء ودماء؟!
وهل يغضب الإله إذا جعلنا العقل الذي دلنا على الإيمان به فيصلا في القبول والرد والحكم والاستنتاج؟؟
وهل يغضب الإله اذا تسامينا عن خطاب التكفير والتفسيق وهدر الدماء وأشعنا عقائد القبول والاحترام؟؟!
وهل يغضب الإله أذا أبعدنا يقينية دينه عن نسبية العلوم، ونزهناه عن الاتجار به في المتاجر السياسية ونأينا بجمود المشايخ عن الوصاية على حيوية المجتمعات؟؟!
وهل يغضب الإله إذا نزهناه عن صفات التكبر والمكر والاستدراج وخاطبناه كصديق وأخ وأنزلناه منزلة الأم الحنون عوض صورة الملك الجبار المنتقم التي طغت على كل صفات الرأفة والرحمة؟!…
إن القابعين في مملكة الرعب التي يقف على أبوابها “منكر ونكير” لن تجدهم دعاة فرح ومحبة، فكيف سيفرح من تنتظره نيران تستعر، وجحيم تنادي هل من مزيد؟ وكيف سيزيل شملة الأحزان ويكسر صقيع الخوف من لا يأمن المكر وسوء الخاتمة، وكيف سيتحرر عقلٌ ليسأل ويشك وينتقد وهو مرتهن لمستقبل مجهول…
لقد آن الأوان لإعادة النظر في الفهم الظاهري للنص المقدس وجعل المحبة والسلام والسعادة والعقل والمنطق وحقوق الإنسان هي المقاصد التي تُؤَوَّلُ كل آية لتوافقها.
الله الذي خلق هذه الكون البديع بملايير المجرات والمسافات الشاسعة هو أكبر من أن يغضب ويُسعر النيران لمجرد أن أحدهم يعيش على ذرة رمل في هذا الكون الفسيح… أراد أن يفكر بحرية.