توقيف باستور وغياب الأمصال يفتحُ المجال للطبّ التقليدي… والوطنُ يخسرُ مرتين! 2\2
لا يختلفُ غيابُ الأمصال عن إشكال يتعلّقُ بغياب ثقافة التطبيب لدى بعض الأسر، إضافة إلى غياب الثقة، في أحيان كثيرة، في المستوصفات. نتيجة لذلك، تلجأ بعضُ العائلات إلى عصير الثّوم والبصل، والذي يدرّ على الجرح الذي خلفته اللسعة، بغية استئصال السمّ واجتثاثه…
تطرقنا في الجزء الأول لمظاهر معاناة ساكني بعض المناطق التي تنتشر فيها العقارب والزواحف السامة.
في هذا الجزء، نرصدُ الدعوات المطالبة بإعادة تصنيع الأمصال محلياً بمعهد باستور، الذي كان قد تراجع عن ذلك منذ 2002.
الإحصائيات الأخيرة للمركز المغربي لمحاربة التسمم واليقظة الدوائية، التابع لوزارة الصحة، جعلت المطالب تزدادُ، حمايةً لحياة المواطنين في الجبال والصحاري والدواوير بمختلف مناطق المملكة.
“من خلال التّشاور مع خبراء في المجال الطبي على الصعيدين الدولي والمحلي، تبين أنّ العلاج بالمصل لا جدوى منه، فكان التفكير في وضع استراتيجية علمية، هي التكفل بالعلاج عن طريق الإنعاش الطبي”.
الإحصائيات ذاتها تؤكد على تسجيل حوالى 30 ألف إصابة بلسعات العقارب، وحوالى 350 حالة لدغة بالأفاعي سنوياً، مع الإشارة إلى أنّ 25.29% من اللسعات أصابت أطفالاً أعمارهم أقل من 15 سنة، ناهيك عن تسجيل 62 حالة وفاة، جلّها من الأطفال، بنِسبة 97%.
في انتظار… “باستور“!
المديرة السابقة للمركز المغربي لمحاربة التسمم واليقظة الدوائية التابع لوزارة الصحة، سناء بلعربي، كانت قد صرّحت لوسَائل إعلام وطنية أنّ “إنتاج المصل توقف منذ سنة 2002، بسبب بعض المشاكل الصحية. سيما بعد أن تبيّن أن المصاب الذي يستفيد من المصل، وبمجرد عودته إلى البيت، كان يعاني مضاعفات. من خلال التّشاور مع خبراء في المجال الطبي على الصعيدين الدولي والمحلي، تبين أنّ العلاج بالمصل لا جدوى منه، فكان التفكير في وضع استراتيجية علمية، هي التكفل بالعلاج عن طريق الإنعاش الطبي”.
من جهته، عبّر علي لطفي، رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة، عن رفضه الدائم لتوقف معهد باستور، الذي يخضع لوصاية وزارة الصحة، عن إنتاج الأمصال المتعلقة بلسعات العقارب.
ذات المعهد، كانت الدولة، منذ سنة 1984، على كل غرار كل معاهد باستور في العالم كتونس ومصر وفرنسا، تعهد إليه مهمة صناعة الأمصال.
لكن… منذ عقدين ونيف من الزمن، توقف معهد باستور في المغرب عن القيام بمهمته في هذا المجال، رغم أنّه لم يكن فقط نشيطاً في تصنيع الأمصال، بل أيضاً في مجال اللقاحات والبحث العلمي والمتابعة لبعض الميكروبات التي تنتشرُ في البلاد، إذ يقُوم بتحَاليل مختبرية لمعرفة مصدرها والعِلاجَات المُمكنة لها، يقول لطفي.
الطريقة البدائية في استئصال سمّ الأفاعي يتمّ توظيفها أحياناً كاختيار، وأحياناً أخرى كإكراه، خصوصاً في حالة سكان المناطق الجبلية نظراً لبعد الوحدات الصحية عنهم.
علي لطفي، في حديثه لمرايانا، عبر عن عدم اقتناعهم في الشّبكة برواية الوزارة، التي تتذرّع بأن الأمصال لا تنقذ شخصاُ أصيبَ بلسعَة عقرب، بل بالعكس، فهي في بعض الأحيان تضاعف حالته وقد تقتله بعد أن تفرز أعراضاً جانبية.
لكن، يتساءلُ لطفي: إذا كانت لا فائدة منها، فلماذا توجد دول في العَالم تنتجُ هذه الأمصَال ونسبة الجدوى منها، تصلُ إلى مائة بالمائة؟
“لنأخذ كمثال معاهد السعودية ومصر والسودان وإيران، باعتبارها دولا تتوفر على مساحات شاسعة من الصحاري وتعرف انتشاراً للعقارب والزواحف السامة مثل المغرب. مصر بدأت تصدّر الأمصَال للدّول الأفريقية، وحتّى تونُس والجَزائر، كجيران للمملكة، لازالوا يُنتجون هذه الأمصَال ضد السّموم”، يقول لطفي.
المشكل المثير في المغرب، بالنسبة للطفي، أنّ هذه الدراسة “الاستثنائية”، التي تقول بها وزارة الصحّة المغربية، لم تخرج إلى الرّأي العام، ولا نعرِف من أنجَزها ولا كيف أنجزت.
لذلك، يعتبر رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة، أنّ “الأمر غير علمي، فالدراسة بقيت طيّ الكتمان”. لذلك، يبقى التقدير الأنسب أن “الموضوع تجاري محض، تدخلت فيه لوبيات صناعة الأدوية. وما يعضّد ذلك أنّه، بعد أن أصبحت الأدوية تجارة مدرة للدخل، تعاظمت مطامح شركات لاحتواء هذا المَجال، واحتكاره”.
لطفي أضاف أنه، وفي إطار الدفاع عن إعادة تصنيع الأمصال محلياً، راسلت الشّبكة كل وُزراء الصحة المُتعاقبين، كما أنّ وزير الصحة السّابق، أنس الدّكالي، أعلن بشكل رسمي أنّ معهد باستور سيعود لإنتاج الأمصال، بطريقة “تشاركية”، يساهم فيها المواطنون.
الأصل في العملية أن يُوفد باحثون ومختصون لإحضار أنواع العقارب والأفَاعي الموجُودة في منطقة معينة بدعم من الساكنة، وسموم تلك العينات التي تمّ إحضارها، هي التي تتحوّل إلى أمصَال.
الغاية الرئيسة، وفق المتحدّث، أن يتمّ جمع العَقارب لكي لا يَزيد حجم تواجدها أو يتضَاعف خطَرها. يشارك المواطنون في هذه العَملية عبر جمع كمية من العقارب في قنينات بلاستيكية وأخدها للمراكز الصحية الموجُودة في المِنطقة، لتُرسلها هذه المراكز لوزَارة الصحّة.
هكذا، وفي ظلّ غياب الأمصال، يخسرُ الوطنُ مرّتين… يخسرُ حياة مواطنين كان يمكن إنقاذهم، وبالتّبع يخسرُ البلدُ ثقة المواطنين في المنظومة الصّحية، لاسيما حين يتعلق الأمر بلدغات العقارب والأفاعي.
غياب الأمصال… اللغز المعقد!
عدي ولحو، مصاب سابق بمنطقة زاكورة بلسعة عقرب على مستوى الكتف، يرى أنّ ما لاحظه حين نقل إلى المستعجلات بورزازات بشكل سريع، هو الجانب الثاني من كل هذه المعادلة.
علي لطفي: “القول بأن الأصمال غير ذات جدوى أمر غير علمي، فالدراسة القائلة بذلك بقيت طيّ الكتمان… لذلك، يبقى التقدير الأنسب أن الموضوع تجاري محض، تدخلت فيه لوبيات صناعة الأدوية. وما يعضّد ذلك أنّه، بعد أن أصبحت الأدوية تجارة مدرة للدخل، تعاظمت مطامح شركات لاحتواء هذا المَجال، واحتكاره”.
الجانب الثاني ببساطة، كما جال في ذهن عدي، هو أن الوزارة تعي جيدا أنه ليسَت هناك أمصال، ولكنها لا تطرح السؤال الأهم، وهو… كيف ستتعامل المراكز الصحية مثلاً مع الحالات التي تُصَاب في مناطِق ليسَت فيها مستشفيات تتوفر على قسم للإنعاش، وهو ما يفسر وفاة الكثير من المصابين في الطريق إلى المستشفى الإقليمي القريب من منطقة الإصابة، والذي يبعد بمائة إلى مائتين كيلومِتر وأحياناً أكثر بكَثير.
عدي يقول لمرايانا إنّه كان محظوظاً لأنه وصل في الوقت المناسب لقسم المستعجلات، وإلاّ كان قد توفي. “لذلك يموت الأطفال، لأن السم ينتشر سريعاً ليبلغ الدّماغ”.
بهية موجان تصرّح بحزنٍ لمرايانا بأنّ إحدى قريباتها توفيت بعد وصولها إلى مستشفى الرّاشيدية قبل سنوات.
حتّى الحَالات التي تصلُ إلى المُستَشفى، في مرّات كثِيرة، يجدُ الأطبّاء أن وضعها بالِغ الخطُورة، لأنّ السّاعَات التي قضَتها في الطّريق نحو المشفى، سمحت للسمّ بالانتشار في الجَسد بشكل يصعبُ التّعامل معَه، خصوصاً مع غياب الأمصال.
لا يختلفُ غيابُ الأمصال عن إشكال يتعلّقُ بغياب ثقافة التطبيب لدى بعض الأسر، إضافة إلى غياب الثقة، في أحيان كثيرة، في المستوصفات. نتيجة لذلك، تلجأ بعضُ العائلات إلى عصير الثّوم والبصل، والذي يدرّ على الجرح الذي خلفته اللسعة، بغية استئصال السمّ واجتثاثه.
هذه الطريقة البدائية يتمّ توظيفها أحياناً كاختيار، وأحياناً أخرى كإكراه، خصوصاً في حالة سكان المناطق الجبلية نظراً لبعد الوحدات الصحية عنهم.
من الطرق التقليدية التي لا ينصحُ بها الأطباء أيضاً، هي كيّ مكان السمّ بـ “الولاعة” ومحاولة امتصاص السمّ عن طريق الفمّ وتفله، كما يتمّ تمرير آلة حادة على منطقة اللسعة، للسماح للسمّ بالخروج مع الدم.
يتم اللجوء أيضا إلى ربط منطقة الجرح بقطعة من قماش لمنع السمّ من النفاذ عبر العروق والانتشار في باقي مناطق الجسد.
يتّضح، إذن، أنّ هناكَ رهانينِ مطروحين على طاولة وزارة الصحّة المغربية. الأول يتعلق بوضع برنامج تحسيسي وتوعوي لفائدة السكان المعرّضين للسعات العقارب والأفاعي حول الطرق الوقائية، وحملهم على الاعتقاد بجدوى الطبّ الحديث وإنهاء التشكيك والعداء النفسي للمستشفى.
والثاني، يتعلّق بضرورة إعادة تشغيل وحدات صناعة الأمصال واللقاحات بمعهد باستور وتمويله بشكل كاف، لتوفير الأمصال الضرورية لإنقاذ المصابين في الوقت المناسب، عبر تعميمه على كلّ مستشفيات الوطن.
في الأخير، فإنه مهما يكن، تبقى الوحدات الصحية من مستوصفات قروية ومستشفيات القرب، هي الحلّ الوحيد والأوحد لإنقاذ المواطنين الذين يتعرّضون للدغات العقارب والأفاعي… لذلك، تدعو كل الساكنة التي قابلتها مرايانا إلى توفير الشروط الضرورية لذلك…
لكن، يبقى السؤالُ حارقاً في ظلّ غياب الأمصال هو: أيمكنُ حقّا علاج المصابين بلسعات العقارب بالعناية المركزة، علما أن المستوصفات والمراكز الصحية في المناطق النائية لا تتوفّرُ على التّجهيزات الضّرورية الخاصة بالإنعَاش؟
- الجزء الأوّل: سمّ العقارب والحَرارة المفرطة: حيف الطّبيعة في المغرب… و”فشل” الوزارة في توفير الأمصَال! 1\2
مقالات قد تثير اهتمامك:
- أسامر… الحُمولة الأيديولوجية لتسمية تقاوم تهميش المغرب الرّسمي! 1\2
- أسامر… بين براءة التّسمية ووصمة “العُنصرية”! 2\2
- إلى جانب الفقر… “أستاذ بيدوفيل” يفجع أطفال أكثر المناطق تهميشاً بالجنُوب الشّرقي
- في الراشيدية والنواحي… حدبات عشوائية تعرّض العربات للخطر وتهدد حياة السائقين (صور)
- الثلوج في المغرب: كابوس للمواطنين وحلول ترقيعية من الدولة 2/2
- “الإحسان” تحت رحمة الصّورة… تسليعٌ للفقر وتشييء للإنسان وضياعٌ لأخلاقيات الفوتوغرافيا! 1/2