إذا طالع العرب أنفسهم في مرايا يابانية، فهذا ما سيرونه… (الجزء الأول)قراءة في كتاب نوبوأكي نوتوهارا: "العرب وجهة نظر يابانية"
لربما لم يثر بلد ما دهشة العالم كما فعلت اليابان… هذه الدولة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية، وقد جزت أخضرها كما يابسها، ثم طلعت من عمق الخراب كالعنقاء وهي …
لربما لم يثر بلد ما دهشة العالم كما فعلت اليابان… هذه الدولة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية، وقد جزت أخضرها كما يابسها، ثم طلعت من عمق الخراب كالعنقاء وهي التي لا تملك تقريبا أي موارد طبيعية، فكانت نهضتها، بشهادة المؤرخين والاقتصاديين، مضرب مثل في تاريخنا المعاصر.
في البلدان “العربية”، لا يخفي الكثير من العرب انبهارهم باليابان كقوة اقتصادية وصناعية اليوم، لكن الكثير قد لا يعلم أن الدول العربية هذه، وفق ما دونه التاريخ، كانت إلى وقت قريب جدا، أفضل حالا بكثير من اليابان…
إحدى مرايانا، هذه المرة، يابانية!
…وهذه المرآة، للمستعرب الياباني نوبوأكي نوتوهارا… رجل قادته المصادفة إلى الثقافة العربية، حينما أعلنت جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية، عام 1961، عن افتتاح قسم للدراسات العربية. ثم فجأة تحرك صوت داخلي في نفسه دعاه إلى دراسة اللغة العربية، بعدما كان يود دراسة الأدب الألماني.
كان اختيار اللغة العربية نوعا من إغواء المجهول كما يقول نوتوهارا، ولم يكن يعرف يومها، أن ذلك سيؤدي به إلى زيارة دول عربية عديدة، ليشفي نهمه المعرفي تجاه هذه الثقافة التي كانت مجهولة بالنسبة لليابانيين.
عاما بعد عام، زيارة بعد زيارة، ستصير الأعوام أربعينا، والزيارات لا تحصى… وليس لهذه التجربة أن تموت معه. كما يقول المثل: الكتابات تبقى، والكلمات تطير… فكانت فاكهة هذه التجربة، كتاب “العرب.. وجهة نظر يابانية”، الذي صدر عام 2003، ويتضمن خلاصات 40 عاما من معايشة نوتوهارا للعرب.
“عندما يعامل الشعب على نحو سيء، فإن الشعور بالاختناق والتوتر يصبحان سمة عامة للمجتمع بكامله”.
الكتاب يقع في 140 صفحة، وقد كتبه نوتوهارا بالعربية الفصحى. ومع أنه من الصنف المتوسط، فإن السؤال التالي يبقى مشروعا: كيف لـ40 عاما أن تُتضمن في 140 صفحة؟ الجواب يوجد في كون نوتوهارا متأثر بالنمط الياباني في الكتابة التي تتميز بالاختصار والدقة. بتعبير عربي: ما قل ودل!
يصعب تلخيص الخلاصات إذن. لكننا في هذه القراءة سنعرض بعض الملامح العامة لملاحظات نوتوهارا، كقادم من ثقافة غريبة لم يألف ما نحن فيه… على أنه يجزم بأن ملاحظاته هذه، كانت في منتهى الموضوعية دون أي أفكار مسبقة، وهي نوع من المقارنة بين ما ألِفه في اليابان وما وجده في زياراته للبلدان العربية.
اقرأ أيضا: ابن بطوطة، رفاعة الطهطاوي، ماري ورتلي مونتاغير وجون ليود ستيفنز: نماذج لأشهر الرحالة (الجزء الثاني)
البداية
عام 1974، سيزور نوتوهارا لأول مرة القاهرة. إلى اليوم لم ينس ذلك الشعور المركب من المفاجأة والدهشة والاكتشاف والفرح… لكنه بعد عشر سنوات من زيارته الأولى هذه، عاد إلى القاهرة، عاصمة مصر، فوجد نفسه أمام أمر غريب.
ذبلت رغبته في الخروج إلى الشارع! ليس ذلك بسبب كرهه للغبار والضجة والحرارة كما يقول، إنما السبب أنه كان يرى توترا شديدا يخيم على المدينة… كان الناس يمشون وكأن شيئا ما يطاردهم، وجوههم جامدة وصامتة، يصنعون طوابير طويلة كل مرة من الواقفين أمام الباصات المكتظة أصلا.
انطباعي بشكل عام أن الناس في شوارع المدن العربية ليسوا سعداء وليسوا مرتاحين.
في فورة هذا الازدحام، كان الكثير ينسى السلوك المحتشم الذي يحتمه الإسلام عليهم كمسلمين وفق نوتوهارا. فسائق التاكسي يقل الراكب حسب المكان الذي يريد الذهاب إليه ويرفض من لا يعجبه شكله أو المسافة التي سيقطعها. هذا شيء لا يصدق في اليابان وفق الكاتب.
اقرأ أيضا: “محمد حميدة يكتب: حجاب حلا وعري المنطق العربي”
هذا التوتر كان يجعل الناس يتبادلون نظرات عدوانية، يزيد توتر المدينة أكثر فأكثر. وكان الموظفون العموميون لا يبالون بالناس. ينهون الأمر كله بكلمة واحدة: بكرة. وهذا يعني أن ما بقي من الطابور، عليه أن يستأنف وقوفه في صباح اليوم التالي.
الاستثناء الوحيد، كان لمن يعرف أحد الموظفين، إذ يقضي أشغاله بسرعة كبيرة. هذا المنظر يتكرر بأشكال مختلفة في البنوك والمطار والبلدية وغيرها من المرافق.
الديمقراطية، حقوق الإنسان، حرية المواطن، سيادة الشعب… كلمات كثيرا ما كان يسمعها نوتوهارا في الراديو أو يقرؤها في الجرائد، لكنه لاحظ أن الحكومة بالمقابل، لا تعامل الناس بجدية بل تسخر منهم بهذه الكلمات… هكذا، لم يستطع تجاهل الصلة بين هذا الأسلوب والتوتر الذي يسيطر على الناس.
يكتب نوتوهارا: عندما يعامل الشعب على نحو سيء، فإن الشعور بالاختناق والتوتر يصبحان سمة عامة للمجتمع بكامله.
لهذا، كان نوتوهارا كلما حط في المطار، ذهب مباشرة إلى بيوت أصدقائه حتى يهرب من هذه الكآبة. لكن، هل يمكن إسقاط ما عاشه نوتوهارا في القاهرة على باقي المدن العربية؟ يقول نوتوهارا إن انطباعه بشكل عام، هو أن الناس في شوارع المدن العربية ليسوا سعداء وليسوا مرتاحين.
انتشار القمع وغياب العدالة الاجتماعية
أول ما اكتشفه نوتوهارا في المجتمع العربي، غياب العدالة الاجتماعية. وغياب هذا المبدأ الأساس الذي يعتمد عليه الناس، يؤدي إلى الفوضى.
في غياب عدالة اجتماعية وسيادة القانون على الجميع، يستطيع الناس أن يفعلوا ما شاؤوا. هكذا، يكرر المواطنون دائما: كل شيء ممكن هنا! يصبح الفرد في هذه الظروف هشا وساكنا بلا فعالية؛ لأنه يعامل دائما بلا تقدير لقيمته كإنسان، دائما وفق الكاتب.
“في مجتمع تغيب عنه العدالة ويسود فيه القمع، وتذوب فيه استقلالية الفرد وقيمته كإنسان، يغيب أيضا الوعي بالمسؤولية”.
نوتوهارا يعتقد أن الداء العضال في المجتمع العربي هو القمع. القمع بكافة أشكاله مترسخ في المجتمعات العربية، فهل ثمة فرد مستقل بفردية في هذه المجتمعات؟ يجيب عن ذلك بلا، فالمجتمع العربي مشغول بفكرة النمط الواحد، على غرار الحاكم الواحد والقيمة الواحدة والدين الواحد، وما إلى ذلك.
من هنا، يحاول الناس أن يوحدوا أشكال ملابسهم وبيوتهم وآرائهم. وفي هذه الظروف، تغيب أي استقلالية للفرد، وخصوصيته واختلافه عن الآخرين. هكذا، يغيب مفهوم المواطن الفرد لتحل مكانه فكرة الجماعة المتشابهة المطيعة للنظام السائد، وفق نوتوهارا.
اقرأ أيضا: “جمال خليل: تطور الحريات الفردية رهين بتطور المصالح الشخصية للأفراد”
في هذه المجتمعات، يحاول الفرد أن يميز نفسه بالنسب، كالكنية والعشيرة، أو بالثروة أو المنصب أو بالشهادة العليا. في مجتمع تغيب عنه العدالة ويسود فيه القمع، وتذوب فيه استقلالية الفرد وقيمته كإنسان، يغيب أيضا الوعي بالمسؤولية.
لا يشعر المواطن العربي بأي مسؤولية عن الممتلكات العامة، مثل الحدائق العامة والشوارع ومناهل المياه ووسائل النقل الحكومية والغابات… باختصار، المرافق العامة كلها.
… وهكذا، لا يتوانى الناس عن تدميرها اعتقادا منهم أنهم يدمرون ممتلكات الحكومة لا ممتلكاتهم هم، وهذا يؤدي إلى غياب الشعور بالمسؤولية تجاه أفراد المجتمع الآخرين، يقول المستعرب الياباني.
“بالنسبة لنا في اليابان، نحن لم نتخلص تماما من ممارسات تصادر حريات الأفراد، ولكننا تعلمنا من تجاربنا وعرفنا كيف نتصرف بمسؤولية تجاه الوطن والآخرين”.
على سبيل المثال، السجناء السياسيون في البلدان “العربية” ضحوا من أجل الشعب، ولكن الشعب نفسه يضحي بأولئك “الأفراد الشجعان”، وفق نوتوهارا، إذ لا حديث عن مظاهرة أو إضراب أو احتجاج عام في أي بلد عربي من أجل قضية السجناء السياسيين.
الناس في البلدان العربية يتصرفون مع قضية السجين السياسية على أنها قضية فردية، وعلى أسرة السجين وحدها أن تواجه أعباءها. حسب الكاتب، يعتبر ذلك من أخطر مظاهر عدم الشعور بالمسؤولية.
اقرأ أيضا: “طوبى للجبناء فيك… يا وطن”
في المقابل، ماذا عن اليابان؟
يقول نوتوهارا: “نحن في اليابان عرفنا تجربة طويلة مع القمع وعانينا من كافة أشكاله في تاريخنا. حتى بعد الحرب العالمية، استمرت مظاهر القمع في الحياة الاجتماعية اليابانية. بعد ذلك التاريخ المرير الطويل، خرجنا من القمع، نحن لم نتخلص تماما من ممارسات تصادر حريات الأفراد، ولكننا تعلمنا من تجاربنا وعرفنا كيف نتصرف بمسؤولية تجاه الوطن والآخرين”.
في الجزء الثاني، سنعرض سر نهضة اليابان، وبعض القصص المتفرقة التي عايشها نوبوأكي نوتوهارا خلال أربعين عاما من زيارته للبلدان العربية.
لقراءة الجزء الثاني: “العرب من وجهة نظر يابانية: مرآة جديدة…”
أين نجد الكتاب؟