المهدي بن تومرت من العلم إلى الملك: المهدوية في اتجاه الدولة 2\2
يعتبر المهدي بن تومرت واحدا من أبرز الشخصيات التي بصمت تاريخ المغرب، بل والغرب الإسلامي ككل، إذ إليه يرجع الفضل في تأسيس الدولة الموحدية التي أصبحت واحدة من أكبر الامبراطوريات التي عرفها التاريخ الإسلامي والمغربي عموما.
في الجزء الثاني من هذا الملف، نرصد تحول المهدي من امر بالمعروف إلى رجل دولة، وما عرف عن المهدي بن تومرت من أساليب وممارسات بغية الوصول إلى هدفه
توقفنا في الجزء الأول من هذا الملف عند رحلة المهدي بن تومرت إلى المشرق من أجل طلب العلم؛ ثم رحلة العودة وما تخللها من مواجهات مع السلطة والفقهاء والناس، إلى أن وصل إلى مدينة مراكش، عاصمة دولة المرابطين آنذاك.
في هذا الجزء، الثاني والأخير، نرصد أبرز محطات المهدي بن تومرت في مسار تأسيس الدولة.
المواجهة مع المرابطين
وصل المهدي بن تومرت إلى المغرب، ولم يلبث أن دخل في سلسلة من المواجهات، ليس مع العامة وحدهم، بل تعداهم إلى السلطة الحاكمة. من ذلك مثلا ما يروى عنه أنه رأى أخت الأمير علي بن يوسف بن تاشفين وجواريها سافرات الوجه، فأغلظ لهن القول، وأمر أصحابه فضربوا دوابهن، حتى سقطت أخت الأمير عن بغلتها؛ كما أغلظ القول للأمير علي بن يوسف في المسجد وسط الناس، حتى قرر الأمير جمع أكبر فقهاء الدولة المرابطية لمناظرة المهدي بن تومرت في القصر.
اجتمع الفقهاء برئاسة مالك بن وهيب الأندلسي وجادلوا بن تومرت، الذي كان بحكم جولته في المشرق والمغرب، بارعا في الجدل، ففاقهم كلهم وتفوق عليهم؛ ويبدو أن مالك بن وهيب أدرك طوية المهدي بن تومرت، فأشار على علي بن يوسف بن تاشفين بقتله، لأنه ليس داعيا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقط، بل هو “رجل مفسد لا تؤمن غائلته، ولا يسمع كلامه أحد إلا مال إليه، وإن وقع هذا في بلاد المصامدة ثار علينا منه شر كثير”. غير أن الأمير رفض الاستجابة لطلب مالك بن وهيب، كما رفض سجنه.
بعد المناظرة، اتجه المهدي نحو إحدى مقابر المدينة وابتنى بها خيمة، وأخذ يعلم فيها الناس الدروس ويلقي المواعظ، ويوجه سهام نقده للأمير ومن معه، ويشنع في القول عليهم، وهو ما أغضب علي بن يوسف بن تاشفين، فأمر المهدي بن تومرت بمغادرة المدينة، فاتجه صوب أغمات، حيث جمعته بفقهائها مناظرة شهيرة، كانت الكلمة العليا فيها له، ثم أعلن “خلع مبايعة علي بن يوسف عن أعناق تابعيه وأصحابه، وأعلن الجميع بخلعه”. من هناك، خرج صوب مسقط رأسه مرفوقا بعشرة من أصحابه.
رفض المرابطون الاستجابة لدعوة المهدي بن تومرت واعتبروا أنهم على حق، وأن دعوة بن تومرت مارقة، فبدأ هذا الأخير بحرب القبائل القريبة منه، والتي ظلت على ولائها للمرابطين، وقد قاد كثيرا من المعارك بنفسه، أو أوكل قيادتها إلى أحد العشرة المقربين منه، خاصة عبد المومن بن علي الكومي.
من الأمر بالمعروف إلى إعلان الدولة
في الطريق إلى مسقط رأسه، لم يعد المهدي بن تومرت مكتفيا بدور الواعظ والمرشد الذي كان يلعبه فيما مضى، بل أصبح يؤلب القبائل والناس على حكم المرابطين، ويطعن فيهم، ويشنع عليهم القول، فأخذ يكثر أتباعه وينتشر اسمه.
هنا، سيمر المهدي بن تومرت إلى مرحلة أخرى من دعوته، إذ سيبدأ بمناكفة القبائل التي رفضت الاستجابة له، من ذلك مثلا أنه أمر بني واجاس أن يقاتلوا بني محمود حتى أعلنوا طاعتهم له، وما إن وصل إلى مسقط رأسه، حتى أعلن مهدويته بطريقة درامية، إذ قام في أنصاره خطيبا، وبعد أن أعلن عبد المؤمن بن علي أن صفات المهدي تتحقق في بن تومرت، قام هذا الأخير إلى شجرة خروب وبسط يديه ليبايعه أصحابه تحت الشجرة تأسيا بالنبي، فبايعه العشرة المقربون منه أولا، ثم توالى الأنصار من باقي القبائل.
أنشأ المهدي بن تومرت جهازا إداريا يتكون من عدة مجالس وهيئات ضمت “أهل الدار، أهل العشرة، أهل الخمسين، أهل السبعين، وعدة مجالس أخرى حسب الفئات المهنية أو القبلية”.
بعد هذا التنظيم الإداري والعسكري والتربوي، زاد المهدي بن تومرت من حدة تشنيعه على المرابطين، فصار يذكر بأحاديث الغربة، وأن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، ويعتبر الحكام كالخوارج، وكان أبرز ما لقب به المرابطين هو المجسمون والملثمون.
من الحرب الدعوية إلى الحرب العسكرية
بعد فترة من الحرب الدعائية، أعلن بن تومرت أن “جهاد الملثمين قد تعين على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر، لا عذر لأحد في تركه، ولا حجة له عند الله”. بعدها، أخذ يرسل الرسل للمرابطين يدعوهم للالتزام بمنهجه (الدين القويم) والابتعاد عن الباطل.
تروي المصادر أنه، عندما كان في جبل كنفيسة، عمد إلى أن “دفن رجال أحياء في مقبرة هناك بفم وادي نفيس ليلا، واتفق معهم يجاوبوا للقوم عند سؤالهم للمقبرة، من يليق ببيعة المسلمين، هل المهدي أولى بالبيعة أو غيره. فأجابوهم عند ذلك من أجداثهم، المهدي هو أمامكم وأولى بالنصر. فقال للقوم اشهدوا وعلموا قبور هؤلاء السادات بأحجار”، وبحسب المصادر، فقد قام بطمر المقبرة على رجاله، حتى يضمن ألا يتسرب سره.
رفض المرابطون الاستجابة لدعوة المهدي بن تومرت واعتبروا أنهم على حق، وأن دعوة بن تومرت مارقة، فبدأ هذا الأخير بحرب القبائل القريبة منه، والتي ظلت على ولائها للمرابطين، وقد قاد كثيرا من المعارك بنفسه، أو أوكل قيادتها إلى أحد العشرة المقربين منه، خاصة عبد المومن بن علي الكومي.
من إيجلي، سينتقل المهدي بن تومرت إلى تينمل، وهو انتقال أملته ضرورات عسكرية بسبب منعة المدينة وأهميتها الاستراتيجية، وكونها على خط مراكش، التي أصبح المهدي بن تومرت يتطلع إليها. من تينمل، سيجهز المهدي جيشا عظيما، بلغ تعداده، حسب المصادر، حوالي أربعين ألف مقاتل، وأمّر عليه أبا محمد البشير، وسيره صوب مراكش.
سيمنى جيش المهدي بن تومرت بهزيمة منكرة في معركة “البحيرة”، وسيقتل قائد جيشه على يد المرابطين. اعتبر البعض أن الأمر كان مؤشرا على قرب نهاية المهدي، الذي لم يلبث بعد الموقعة وقتا يسيرا حتى توفي. حسب المصادر التاريخية، فقد توفي سنة 522 أو 524.
إمام أم متلاعب
يقف الباحث في شخصية المهدي بن تومرت على الصور المتناقضة التي تقدمها المصادر حوله، كما نسبت له مجموعة من الأساليب من أجل اقناع الناس بأنه المهدي المنتظر؛ من ذلك مثلا ما ذكره التاسافتي في رحلة الوافد:
“أن المهدي لما عسر عليه دخول الناس تحت يده، ولم يصدقه كثير في شغله، اعتد على حرفة، وذلك أنه يمشي بمزودين أبيضين من تينمل إلى أعلى ربوة هناك يقال لها ربوة الطبول، ويقول لهم أردت أن ألتقي مع صالحي الوقت وسياحها في الجبل بحيث لم يحضر معي أحد من القوم.
ويجعل ذلك المزودين تحت إبطه إلى قمة الجبل وينفخهما، ثم يجلس بينهما، مثل رجلين وهو مقابل للبلد على تلك الحالة يراه الناظر كأنه جلس مع أناس بيض الثياب؛ ويتعجبون حيث لم يقدم معه أحد. ثم يجلس في وسطهم مدة ثم يطويهم على العادة، ويرجع وحده إليهم بمرأى من الناس عيانا وحضور الجم الغفير. وانقاد الناس إليه حينئذ”.
كما تروي المصادر أنه، عندما كان في جبل كنفيسة، عمد إلى أن “دفن رجال أحياء في مقبرة هناك بفم وادي نفيس ليلا، واتفق معهم يجاوبوا للقوم عند سؤالهم للمقبرة، من يليق ببيعة المسلمين، هل المهدي أولى بالبيعة أو غيره. فأجابوهم عند ذلك من أجداثهم، المهدي هو أمامكم وأولى بالنصر. فقال للقوم اشهدوا وعلموا قبور هؤلاء السادات بأحجار”، وبحسب المصادر، فقد قام بطمر المقبرة على رجاله، حتى يضمن ألا يتسرب سره.
كما حفلت المصادر بروايات عديدة عن سفك المهدي بن تومرت للدماء، من ذلك مثلا غدره بأهل تينمل، إذ بعدما عاهدوه على الأمان أمرهم أن يحضروا إلى المسجد بلا سلاح، حيث أعمل فيهم قتلا، حتى وصل عدد القتلى الى 15 الفا.
لا يمكن الركون إلى هذه الروايات أو تصديقها بالمطلق دون وضعها على محك النقد، فشخصية المهدي كانت محط اختلاف بين المؤرخين والباحثين، من يصوره سافكا للدم، ومن ينظر إليه مصلحا دينيا…
بين الزعيم السياسي والقائد العسكري، بين العالم والسلطان، بين حامل السيف وحامل العلم… صور عديدة امتزج فيها الأسطوري بالتاريخي والواقعي بالخيالي، لتشكل صورة واحد من أبرز شخصيات التاريخ المغربي.
لقراءة الجزء الأول: المهدي بن تومرت من طلب العلم إلى الملك
مقالات قد تهمك
هذه حكاية التصوف في المغرب… بلاد الأولياء والصالحين!
خيرونة الفاسية… “زعيمة” المذهب الأشعري بالمغرب
أبو القاسم الجنيد، منبع الصوفية في المغرب
السيدة الحرة… حاكمة تطوان وأميرة الجهاد البحري!
كنزة الأَوْرَبية.. المرأة التي دعّمت أركان أول دولة إسلامية في تاريخ المغرب!