بدر شاكر السياب… صوتُ المتعَبين في الوَطن!
يذهب بعض النّقاد إلى أنّ حياة بدر شاكر السياب كانت بئيسة. رغم عطاءاته الشعرية والفنية والنقدية، إلاّ أنّه يرمز في كثير من وجوهه إلى غربة المبدعين العرب الكبار وعزلتهم العميقة، إزاء مجتمع آيل إلى المزيد من الانتكاسات الثقافية، بسبب الرجوع غير العقلاني للماضي، وبفعل تصاعد موجات الرداءة في الأوطان “العربية”، وتنامي هامشية دور المثقفين العرب وتراجع إمكانات تأثيرهم على العوام.
يمكن أن يصبح الإنسان شاعراً ومثقفاً ملتزما أو عضوياً، يتغنّى بهموم الفقراء والمسحوقين والمنكوبين في المجتمعات الطّبقية الهشّة.
لكن…
ليس من السهولة بمكان، أن يُخَطَّ أيّ كان اسمه في سجلّ التّاريخ… فذلك لا يتأتى إلا للصّادقين، تماماً على غرار بدر شاكر السياب.
من هو هذا الشّاعر؟ وما ملامح صدق رسالته الشّعرية الملتزمة؟
من حُضن الأمّ إلى حُضن القصِيدَة
… أطلّ الشّاعر العراقي على العالم لأوّل مرّةٍ في 25 دجنبر 1927 بقرية جيكور جنوب شرق البصرة بالعراق. وكان ينحدر من أسرة ريفية محافظة.
درس الابتدائية في القرية المجاورة لجيكور، والثانوية في البصرة، ثم انتقل إلى بغداد فدخل جامعتها “دار المعلمين العالية”، والتحق بفرع اللغة العربية ثم الإنجليزية فاطلع على آدابها، وأعجب ببودلير وفيرلين وتأثر بشلي وكيتس وإليوت في الغرب، كما عكَف على المتنبي والجاحظ وأبي العلاء الذين يعتبرهم السّيابُ “العمالقة الثلاثة”.
تضامن السّياب مع حقوق المرأة الاجتماعية، وكتب في هجاء بعض التقاليد التي تُخضعُ الإناث في المجتمعات الطبقية الأبوية، لما يشبه عمليات “البيع”، أي ضرورة تزويج الفتاة الفقيرة من الأغنياء.
في بداياته، كتب السياب شعراً عمودياً، متأثّراً بجيل علي محمود طه، إذ اتّضح ذلكَ جليًّا في ديوانه “أعاصير”، الذي حافظ فيه على نظام الشّطرين، أي الشكل العمودي. وعبر ذات الديوان تفجّر نزوح السّياب نحو القضايا الإنسانية.
أحبّ السيابُ وطنه بطريقة مخيفة. وظلّ صوتاً للمُتعبين في وطن يرزح تحت وطأة الاستعمار والجهل والتّخلف. فرغم كل العراقيل، إلاّ أنّه، قرض بيوتاً للثّورة الشّعبية، التي هزّت المُستعمر وأحدثت رجّة في أركانه.
قصائد السّياب الملتزمة فجّرت، أيضاً، الرّعب في صفوف عملاء الاحتلال وأنصاره في العراق. ما جعل أشعاره غاصّةً بكمّ هائل من المشاعر الإنسانية الصادقة. فهناك دائما ذكر للوطن والاشتياق إلى الأرض بطريقة تعلو فيها البراءة والحنين والعفوية والجنون.
وصف الكثير من النقاد والشعراء السياب بـ”رائد الشّعر الحر”، إذ ظهرت أولى قصائد هذا الشعر، الذي تحرر من نظام الشطرين، نهاية نونبر من عام 1946، حيث نشر أول قصيدة له عنوانها “هل كان حبا؟”.
كسّرت هذه القصيدة النظام العمومي للقصيدة العربية الكلاسيكية، واعتمدت أساليباً غنائية جديدة، اعتبرها النقاد إيذاناً بحداثة شعرية تثور على القيود القديمة والروي والقافية…
نشب نقاشُ بخصوص من له السبق في طرق باب شعر التفعيلة المعاصر، هل السياب أم نازك الملائكة، نظراً للتقارب الزمني بينه وبين نازك الملائكة، التي نشرت قصيدتها الشهيرة “الكوليرا” عام 1947.
السّيابُ: شاعرُ “المنعطفات”…
في غمرة تجربته الشّعرية، فإنّ النقاد أجمعوا أنّ بدر مرّ بثلاث منعطفات مهمّة.
الأولى تمثّلت في المرحلة الرومانسية أو سؤال الذّات، التي امتدت ما بين 1943 و1948من حياة بدر. كان حينها في أوج البلوغ، أي في سن تتراوح بين السادسة عشرة والثالثة والعشرين.
تزامناً مع ذلك، اشتدت الحرب العالمية الثانية؛ حيث كانت دول المنطقة تغلي بمختلف مشاعر التمرد والرفض ومكافحة المستعمر وتنامي حركات التحرر الوطني؛ إلى جانب معركةً من نوع آخر ضدّ التقاليد البالية والرّجعية العربية أيضاً، فكانت الحركة الرومانسية في الوطن العربي قد بلغت ذروة مجدها، وكان لبدر في الوقت ذاته مأساة خاصة.
جسّدت الأسطورة أرضاً خصبةً لإبداعات السياب، فاستثمرها من خلال تمرير رسائل سياسية واجتماعية وإنسانية، بيد أنّه دفع ثمنها كبيرا. إذ لوحق وفصل من وظيفته بسبب مواقفه السياسية.
وهو في عمر السّادسة، فقد السياب الوالدة، التي كانت تشكّل له الكنف الأمومي ومنبع الدفء والاستمرار. تزوج أبوه، فكانت محنة الأم ومحنة الوطن، حادثتين أثرتا كثيراً في نفسه، فكتب حينها قصيدته “خيالك”…
قال السيابُ:
خيالك من أهلي الأقربين… أبَرّ وإن كان لا يعقل
أبي منه قد جردتني النساء… وأمي طواها الردى المُعجل
بعدها بقليل، وافت المنيّةُ جدته، فجاءت صدمة موتها عنيفة عليه، لأنّها حلت في ذهنه محل والدته، فكتب قصيدته “رثاء جدتي”.
السّياب… مخاضُ التّحوّل
بعدها، أصبح السياب يسارياً، لأنه وجد في اليسار صوتاً للمقهورين والمنكوبين في وطن يائس من الحياة وقتذاك. التحق بالحزب الشيوعي، فانتقلت مضامين قصيدته نحو المرحلة الثانية، الواقعية، التي امتدّت من 1949 إلى 1955.
في هذه المرحلة اتصل السياب بالحزب الشيوعي، وانتقلت مضامين الموت عند السياب من المستوى الفردي الذاتي، إلى نطاق جمعي، بعد أن اتصل بهموم الوطن وما يجري من قهر في المجتمع العربي.
دخل بعد ذلك في مرحلة أخرى، يطلقُ عليها النّقاد: التّموزية أو الواقعية الجديدة. هذا الاتجاه الجديد، الذي يمتد زمنيا من 1956م إلى 1960م، تغلبُ عليه أيضاً، ملامح الغربة والاغتراب والحلم واليأس والأمل والموت.
سعى السياب في هذه التجربة أن يبين كيف يتمثل الشاعر الحر، المجتمع الذي يعيش فيه، وكيف باستطاعته أن يعبر عن الجراح الجماعية والندوب، بشكل عميق يلتقي فيه الواقعي بالأسطوري، وهذا ما يفسّر اعتماده كمّا هائلاً من الرموز والأساطير.
عندما اتصل السياب بالحزب الشيوعي، انتقلت مضامين الموت عنده من المستوى الفردي الذاتي إلى نطاق جمعي، بعد أن اتصل بهموم الوطن وما يجري من قهر في المجتمع “العربي”.
جسّدت الأسطورة أرضاً خصبةً لإبداعات السياب، فاستثمرها من خلال تمرير رسائل سياسية واجتماعية وإنسانية، بيد أنّه دفع ثمنها كبيرا. إذ لوحق وفصل من وظيفته بسبب مواقفه السياسية.
في مرحلة نقدية، انشقّ السياب عن الحزب الشيوعي، وأخذ ينقد بشكل لاذع تجربة اليسار العربي، تحديداً في العراق، الآخذة في التقهقر والتراجع. بدا ذلك واضحاً في مقالاته “كنتُ شيوعياً”.
بعدها، أخذ السياب منعطفاً جديداً، 1961م و1964م، وهي مرحلة العودة إلى الذات (الذاتية).
كانت هذه المرحلة بمثابة انتكاسة في تجربته الشّعرية، لأنه عانى أيضاً نكبةً على المستوى النفسي، بعد أن أنشبت المنية أظفارها في جسد السياب.
كانت حياة الرّجل فقيرة ومحزنة، واجه فيها قدره، وأصبح يدافع عن مجرد بقائه على قيد الحياة.
أبلغ من ذلك، فقصائدهُ تمور بكل ما حملته أصوات العراقيين المحبطين عبر العصور، من آهات المرارة وويلات الاستبداد والقهر والشجن العاطفي، الذي ما فتئ يلامس سدرة المنتهى في أعماله الأخيرة، غداة أن أعياه المرض وسُدّت أمامه سبل النجاة.
عدّ النقاد قصيدة “أنشودة المطر” للسياب، بأنّها أيقونة الحداثة الشعرية العربية.
لهذا، يقول شوقي بزيع إنّ هذه القصيدة افتضّت الحدود الزمانية، أي فترة حياة السياب، والمكانية، أي العراق، لتتحول إلى صرخة كونية ضد الفقر والعقم والتصحر الروحي.
يقول فيها السياب :
في كل قطرة من المطرْ
حمراء أو صفراء من أجنّة الزهَرْ
وكل دمعة من الجياع والعراة
وكل قطرةٍ تراق من دم العبيدْ
فهْي ابتسامٌ في انتظار مبسم جديدْ
أو حلْمة توردتْ على فم الوليدْ
في عالم الغد الفتي واهب الحياةْ…
يذهب بعض النّقاد إلى أنّ حياة السياب كانت بئيسة. رغم عطاءاته الشعرية والفنية والنقدية، إلاّ أنّه يرمز في كثير من وجوهه إلى غربة المبدعين العرب الكبار وعزلتهم العميقة، إزاء مجتمع آيل إلى المزيد من الانتكاسات الثقافية، بسبب الرجوع غير العقلاني للماضي، وبفعل تصاعد موجات الرداءة في الأوطان “العربية”، وتنامي هامشية دور المثقفين العرب وتراجع إمكانات تأثيرهم على العوام.
سعى السياب أن يبين كيف يتمثل الشاعر الحر، المجتمع الذي يعيش فيه، وكيف باستطاعته أن يعبر عن الجراح الجماعية والندوب، بشكل عميق يلتقي فيه الواقعي بالأسطوري، وهذا ما يفسّر اعتماده كمّا هائلاً من الرموز والأساطير.
تضامن السّياب مع حقوق المرأة الاجتماعية، وكتب في هجاء بعض التقاليد التي تُخضعُ الإناث في المجتمعات الطبقية الأبوية، لما يشبه عمليات “البيع”، أي ضرورة تزويج الفتاة الفقيرة من الأغنياء.
يقول السياب في قصيدة عرس في القرية:
يا رفاقي سترنو إلينا نوار
من عل في احتقار
زهدتها بنا حفنه من نضار
خاتم أو سوار وقصر مشيد
من عظام العبيد
وهي يا رب من هؤلاء العبيد
ولو أنا وآباءنا الأولين
قد كدحنا طوال السنين
وادخرنا على جوع أطفالنا الجائعين
ما اكتسبناه في كدنا من نقود
ما اشترينا لها خاتما أو سوار
خاتم ضم في ماسة الأزرق
من رفات الضحايا مئات اللحود
اشتراها به الصيرفيّ الشقي
لعل قصيدة “غريب على الخليج”، التي جاءت ملبّدة بتقاسيم الأسى والظلم والوجع، لتعبير عن تماهي المثقف في الوطن وذوبان الوطن في المثقف أيضاً.
عبّر فيها السياب عن رغيف الحنين لبلده العراق، الذي أبعد نفسه عنه خوفًا من السجن، وذلك بعد ملاحقته من قبل السلطة لانتمائه لفترة من الزّمن للحزب الشيوعي.
جاء في أبياتها:
“صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق
كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي عراق
والموج يعول بي عراق، عراق، ليس سوى عراق
البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما يكون
والبحر دونك يا عراق
كغيره من شعراء ومثقفي زمانه، الذين عايشوا لحظة اغتصاب فلسطين، كان السياب مناهضاً للصهيونية ومعادياً لها.
تتجسد مأساة فلسطين عند الشاعر في قصيدته “قافلة الضياع” من ديوانه “أنشودة مطر”… موضوع هذه القصيدة هي اغتصاب فلسطين وطرد أهلها، حيث يقول:
أرأيت قافلة الضّياع أما رأيت النازحين
الحاملين على الكواهل من مجاعات السنين
آثام كل الخاطئين
النازفين بلا دماء
السائرين إلى وراء
كي يدفنوا هابيل وهو على الصليب ركام طين
قابيل، أين أخوك، أين أخوك
جمعت السماء
آمادها لتصيح كُورت النجوم إلى نداء
قابيل أين أخوك
يرقد في خيام اللاجئين
توقّف قلب السياب عن نبض الشّعر يوم 24 دجنبر 1964 بالكويت. بعد أن فشلت رحلة علاج طويلة بدأت عام 1962، تنقل خلالها بين بيروت وباريس ولندن، عشيّة إصابته بمرض عضال عرّضه للشلل في آخر حياته.
عاش السياب زاهدا، ومات كذلك. لم يبع مواقفه ولم يخضعها للمساومة. الغنى الحقيقي للسياب، أنّهُ ترك قصائده لتخاطب الزّمن في المطلق…
مقالات قد تثير اهتمامك:
- الشيخ إمام: صوت الواقع الذي لم يهادن
- أحمد فؤاد نجم… شاعرُ الثّورة
- نزار قباني… الشّاعرُ الذي هَدّتْ قصَائدهُ طابوهات القيّم العربيّة!
- عبد السلام عامر… كفيفا أطل ليستحم الخلود في لحنه ثم رحل! 2/1
- الحركة الغيوانية… على مقام الحرية تُغنّى هموم الإنسان
- محمود درويش… وبقيّ الشّعر وحيداً
- أحمد مطر: فيلرمِ السّلطةَ… من كان بيتُه من شِعر!
- العربي باطما… نغمة مهمومة مثل صيف…