“غيمة أطلس cloud atlas”: انتصار للإنسان في سفر بصري/فلسفي
وأنت تشاهد الفيلم، تجد نفسك أمام سؤال جوهري: ما الذي يجمع قصص هذا الفيلم الستة؟ ما الرابط بين قصة تدور أحداثها سنة 1849 بالمحيط الهادي، وأخرى تدور أحداثها سنة 1936 باسكتلندا، وثالثة سنة 1973 بسان فرانسيسكو، والرابعة سنة 2012 ببريطانيا، والخامسة سنة 2144 بنيوسول في زمن الصراع التكنولوجي، والسادسة سنة 2321 بعد انهيار الحضارة.
مرايانا تخصص هذا المقال للسفر في عوالم فيلم غيمة أطلس
“الحقيقة متفردة، وكل نسخها مجرد زيف”.
حياتنا ليست ملكا لنا، من ميلادنا وحتى الممات نحن مرتبطون بالآخرين، في الماضي والحاضر، وبكل عمل خير أو عمل شر، نعيد خلق المستقبل”.
هذه من بين أقوى الجمل التي وردت في فيلم سحابة أطلس cloud atlas، وهو فيلم ألماني أمريكي صدر سنة 2012، من إخراج توم تايكور والأخوة وتشاوسكي (مخرجا ثلاثية المصفوفة the matrix)، وقام ببطولته كل من توم هانكس وهالي بيري.
اقتبس هذا الفيلم عن رواية انجليزية بنفس العنوان للكاتب ديفيد ميتشل نشرت سنة 2004، وصنفت ضمن أفضل 100 رواية عالمية.
إن كان النقاد قد أجمعوا على عدم صلاحيتها لتصبح عملا سينمائيا، بسبب تعقيدها الشديد، فإن توم تايكور أخذ التحدي ليحولها لفيلم سينمائي لازال الجدل يرافقه.
قصص مختلفة … مترابطة
وأنت تشاهد الفيلم، تجد نفسك أمام سؤال جوهري: ما الذي يجمع قصص هذا الفيلم الستة؟ ما الرابط بين قصة تدور أحداثها سنة 1849 بالمحيط الهادي، وأخرى تدور أحداثها سنة 1936 باسكتلندا، وثالثة سنة 1973 بسان فرانسيسكو، والرابعة سنة 2012 ببريطانيا، والخامسة سنة 2144 بنيوسول في زمن الصراع التكنولوجي، والسادسة سنة 2321 بعد انهيار الحضارة.
ما العلاقة التي يمكن أن تجمع بين عبدٍ أسمر يسعى للحصول على حريته، وطبيب فاسد لا يتوانى عن محاولة قتل محام نبيل طمعا في خاتمه، وبين موسيقي مثلي وصحافية نزيهة، وصاحب دار نشر يجد نفسه في دار للعجزة، وعاملات متحكم فيهم وآكلي لحوم البشر؟
يبدو الفيلم غنيا بالدلالات والإحالات، في مزيج جمع بين الفلسفة النتشوية، واتجاهات ما بعد الحداثة، والكتابات التاريخية، والفلسفات الشرقية القديمة، وحضورا قويا عبر سلسلة من الحوارات المكثفة لمفهوم العود الأبدي النتشوي، والقائمة على الاعتقاد بأننا نعيش حياتنا مرات تتكرر.
تزيد حدة السؤال عندما نجد أن نفس الممثلين في كل قصة يمثلون أدوارا أخرى في القصة الموالية، فتوم هانكس مثلا قام بأداء سبع شخصيات مختلفة عن بعضها البعض بشكل مطلق، حتى أنه كان من الصعب التعرف عليه في بعضها، وكذلك الأمر لهال بيري.
يصعب أن نعتبر الأمر مجرد تشظي أو تيه سقط فيه مبدعو الفيلم، كما ذهبت إلى ذلك بعض الآراء النقدية، فحتى التقنيات الموظفة من موسيقى ومونتاج تدعو المشاهد إلى البحث عن الرابط بين كل هذه القصص، خاصة مع اعتماد المونتاج على إيقاع متناوب ومختلف حسب السياق والإيقاع، من المونتاج الحركي السريع إلى السلس البطيء، كما لو كان يأخذنا في جولة زمنية ومكانية، ويصبح بدوره جزء من المشترك، وعنصرا ضروريا في القراءة الفلمية لهذا العمل.
تركيب الفيلم وتعقيده سيف ذو حدين، فقد يجعلان المشاهد يتيه، وهو يبحث عن التفاصيل، أو قد يصل لأقصى المتعة، وهو يلتقط أدق التفاصيل التي تمثل المشترك، سواء كان حوارا، أو رسالة، أو موسيقى تصويرية، ما يجعل رحلة المشاهدة في شق منها، إبحارا في رحلة للبحث عن المشترك ضمن كل العناصر المادية والإنسانية والفكرية والرمزية، خاصة مع تمكن فريق الإخراج من اللعب على العنصر التقني والتشويقي، عبر خلق صور بصرية مشتبكة تمزج بين الغموض والتشويق والقدرة على الانتقال السلس بين القصص والإيهام بالمشترك والمنفصل.
سفر فكري بلوحات بصرية
يبدو الفيلم غنيا بالدلالات والإحالات، في مزيج جمع بين الفلسفة النتشوية، واتجاهات ما بعد الحداثة، والكتابات التاريخية، والفلسفات الشرقية القديمة، وحضورا قويا عبر سلسلة من الحوارات المكثفة لمفهوم العود الأبدي النتشوي، والقائمة على الاعتقاد بأننا نعيش حياتنا مرات تتكرر.
تواصل البشرية تقدمها في الفيلم، وتتلاشى في الآن نفسه كل العلاقات الإنسانية، إذ تحول الناس إلى أسياد وعبيد بصيغة جديدة، أي خدم معدلين جينيا، بلا أية حقوق ولا دور لهم في الحياة سوى السهر على راحة السادة، والعصيان نتيجته الموت. هكذا إذن تعيد البشرية سيرتها الأولى بأشكال مقنعة ومختلفة لكن جوهرها واحد، صراع الحرية ضد العبودية.
كما نجد في الفيلم نقدا عميقا لمفاهيم الحضارة والتقدم، وانتصارا للحرية في مواجهة العبودية، والخير في مواجهة الشر، والقيم الإنسانية في مواجهة الرذائل الإنسانية، وهي مواجهات تحضر بصيغ متعددة في الفيلم.
انتصار للقيم الإنسانية
تشكل الحرية إحدى التيمات الأساسية للفيلم، إذ استهل بمحامِ في القرن التاسع عشر يحاول تحرير العبيد، وانتهي سنة 2144 بفتاة تضحي بروحها من أجل تخليص البشرية من استعباد العقل والجسد، لتصبح بعد انهيار الحضارة البشرية إلهة يعبدها الناس، ويحاولون السير على دربها.
تيمة مركزية أخرى يطرحها الفيلم، وهي الجشع. لكن المثير هنا أن الجشع يسير في منحى متمدد، فينتقل من الأفراد إلى المدن ثم إلى الإنسانية كلها.
هكذا، نبدأ أول القصص بطبيب جشع يحاول بشكل سري تسميم مريضه المحامي طمعا في ممتلكاته. يتطور الجشع ليواجه الموسيقار العجوز مساعده “روبرت فرويشير” سنة 1930، ويعلن عن نيته في سرقة مقطوعة هذا الأخير “سحابة أطلس” ونسبتها لنفسه.
يتطور مسار الجشع في الفيلم، إذ لا يتوانى أحد رجال الأعمال سنة 1970 في أخذ المبادرة من أجل تدمير مدينة بأكملها، عبر تدمير مصنع نووي؛ يتغلغل الجشع أكثر ويحضر داخل الأسرة الواحدة فيسجن الأخ أخاه في دار المسنين حتى لا يؤدي ديونه، وكذلك يفعل عدد من الأبناء الذين نسوا كل صلاتهم بآبائهم ولم يهتموا إلا لوصيتهم الأخيرة.
تواصل البشرية تقدمها في الفيلم، وتتلاشى في الآن نفسه كل العلاقات الإنسانية، إذ تحول الناس إلى أسياد وعبيد بصيغة جديدة، أي خدم معدلين جينيا، بلا أية حقوق ولا دور لهم في الحياة سوى السهر على راحة السادة، والعصيان نتيجته الموت. هكذا إذن تعيد البشرية سيرتها الأولى بأشكال مقنعة ومختلفة لكن جوهرها واحد، صراع الحرية ضد العبودية.
من القيم التي يحتفي بها الفيلم، قيمة العطاء، والتي تكاد تضاهي الحرية في حضورها في الفيلم، إذ الاستعباد المقترن بالأنانية، تقابله الحرية مقترنة بالعطاء؛ فهو هنا ليس مجرد ترف أخلاقي، بل واجب لإنقاذ النفس والآخر، فالمحامي ينقد العبد، ويكون سببا في نيل حريته، فيرد العبد الجميل ويخلصه من سم الطبيب القاتل، ووالد الصحفية “لويزا راي” ينقذ زميلا له في الحرب، فينقذ هذا الأخير ابنته من القتل، ويرفض الناشر المحجوز في دار العجزة التخلي على العجوز أثناء محاولة هربهم، ويخاطر رفقة من معه من أجل تحريره، فيقوم هذا الأخير بإنقاذهم من بطش ممرضة متعجرفة.
البطل: الإنسانية
تتوالى المشاهد وتتكرر وكأن الفيلم يوجه صرخة أن لا مستقبل للبشرية، إلا بالتغلب على الجشع والانتصار للقيم الإنسانية. لهذا، نجد أن الفيلم رفض فكرة البطل الذي تجتمع فيه كل الخصال الخيرة، أو المخَلٌص، والذي عادة ما تحفل به هذه النوعية من الأفلام، بل حرص على تقديم شخصياته في صورهم الإنسانية، بمزيج مشاعرهم وتناقضاتهم، بخوفهم ولحظات جبنهم وترددهم، ثم لحظات شجاعتهم.
فيلم سحابة أطلس يأخذ المشاهد في سفر على مدار ثلاث ساعات، ليقدم الإنسان كيف كان وسيكون، وينتصر أولا وأخيرا للإنسان، عبر مزيج فلسفي فكري بصري أدبي، قلما تحقق في غيره.
مقالات قد تهمك
السينما والكتب… ثلاثة أفلام احتفت بشغف القراءة وحلم الكتابة
لِماذا لا تُجسَّد شخصية الرسول محمد في السينما العربية؟
Green Book: حين تجمع السينما بين نقاش القضايا الإنسانية وبين الفرجة الحقيقية
في عينيا: حين يجمع فيلم بين الموضوع المهم، الأداء المبهر والحبكة السينمائية