أحمد فؤاد نجم… شاعر الثورة
نتعرّف في هذا البورتريه إلى حكاية أحمد فؤاد نجم، “الشّاعر البندقية” كما وصفه أحد النقاد… الشاعر الذي شكّل مع الشيخ إمام حالة فنية طافحة بالثورة في النصف الثاني من القرن الذي مضى.
وُلد أحمد فؤاد نجم في الـ23 من ماي 1929م بقرية كفر أبو نجم، ضواحي محافظة الشرقية في مصر.
رزئ باكرًا في والدته فانتقل ليعيش مع خاله في الزقازيق، إحدى أكبر مدن المحافظة، قبل أن يجد نفسه في ملجأ أيتام غادره في سن الـ17 ليعود إلى قريته…
عمل في القرية راعيا للماشية فترةً قصيرة، انتقل بعدها إلى القاهرة ليعيش مع أخيه. لكنّ الأخ طرده، وعاد ثانيةً أدراجه إلى كفر أبو نجم.
عاش طفولة قاسية بكلّ معاني القسوة. تنقّل بين مهن عديدة في معسكرات الجيش البريطاني: بائع، عامل بناء، كواء (كي الملابس)… حتّى استقرّ به المقام أخيراً في مُحافظة القنال وأكبر مدنها، بورسعيد. كانت آنذاك تقبع تحت الاحتلال أيضا.
شكّل مقامه هناك نقطة فارقة… فمنذ ذاك، أخذ يكتسب معنى لحياته بما كانت تقع عليه عيناه من كُتب عمال المطابع الشيوعيين.
لم تكن كتابةُ الشعر بالعامية عند أحمد فؤاد نجم تنمّ عن عدم تمكن من اللغة العربية. إنّما العامية عنده كانت أكبر من لهجة أو لغة. إنّها بحسبه روحٌ تُجسّد أهم إنجاز حضاري للشعب المصري.
يقول: “كانت أهم قراءاتي في ذلك التاريخ روايةُ “الأم” لمكسيم غوركي. ترتبط في ذهني ببداية وعيي الحقيقي والعلمي بحقائق هذا العالم، والأسباب الموضوعية لقسوته ومراراته”.
شارك أحمد فؤاد نجم، عام 1946م، في المظاهرات التي اجتاحت البلاد وأعقبها تشكيل اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال.
رغم ذلك: “لم أكن قد كتبت شعرا حقيقيا حتى ذلك الحين. كانت أغانٍ عاطفية تدور في إطار الهجر والبعد ومشكلات الحب الإذاعية التي لم تنته حتى الآن… كنت في ذلك الحين أحب ابنة عمي وأتمناها. لكنّ الوضع الطبقي حال دون إتمام الزواج لأنهم أغنياء”.
كان شعره، بمعنى ما، مُجرّد متنفس. وقد اشتغل في خطوط السكة الحديدية بعد ذلك.
لما أفرغ الجيش البريطاني قاعدته بالقنال بعد معركة السويس، أخذت الحكومة المصرية تستولي على ما تركه… وكان ما شهده أحمد فؤاد نجم، آنذاك، يُذهِل العين.
“أخذ كبار الضباط ينقلون المعدات وقطع الغيار إلى بيوتهم… فقدتُ أعصابي وسجّلت احتجاجي أكثر من مرة… وفي النهاية، نُقلت إلى وزارة الشؤون الاجتماعية بعد أن تعلّمتُ درسا كبيرا”.
أمّا الدرس الذي تعلمه، فكان أنّ القضية الوطنية لا تنفصل عن القضية الاجتماعية:
“كنتُ مقهوراً وأرى القهر من حولي أشكالا ونماذج… كان هؤلاء الكبار منهمكين في نهب الورش، بينما يموت الفقراء كل يوم دفاعا عن مصر”.
اشتغل أحمد فؤاد نجم كساعي بريد في الوزارة… عملٌ مكّنه من إعادة اكتشاف الواقع. كان مرادفاً حرفيا لما تعلّمه نظريا: “التناقض الطبقي كان بشعا”.
هذه المشاهد ظلّت تتردد على عينيه. حين انتقل ليشتغل في النقل بالعباسية، أحد أحياء القاهرة القديمة، أدرك أن المأساة هي نفسها حيثُما راح.
اعتُقل مع أربعة عمال بتهمة التحريض وإثارة الشغب. ضربوهم بقسوة إلى أن قتلوا أحدهم، ثم طلبوا منه وممن تبقى التوقيعَ على إقرار بأنه توفي في شجار مع أحدهم.
وُجّهت إليه، لرفضه التوقيع، تهمة اختلاس وحُبس لـ33 شهرا. ولما أُفرج عنه، عاد إلى السجن ثانية لفترة تمتد 3 سنوات، بتُهمة تزوير استمارات.
في آخر سنة هناك، نظّم المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون مُسابقة أدبيةً حاز فيها على المرتبة الأولى.
جائزةٌ خوّلت لأحمد فؤاد نجم إصدار ديوانه الأول، وهو بعد بين القضبان. كان الديوان يحمل عنوان “صور من الحياة والسجن”، ونظَمه بالعامية المصرية.
بالمناسبة، لم تكن كتابةُ الشعر بالعامية عند أحمد فؤاد نجم تنمّ عن عدم تمكن من اللغة العربية. إنّما العامية عنده كانت أكبر من لهجة أو لغة. إنّها بحسبه روحٌ تُجسّد أهم إنجاز حضاري للشعب المصري.
حين اعتنق الحرية أخيراً، عُيّن موظفا في منظمة تضامن الشعوب الآسيوية الإفريقية، وأصبح أحد شعراء الإذاعة المصرية.
منذ ذاك… بدأ نجمُ أحمد فؤاد يصعد. ففي تلك الفترة، تعرّف على الشيخ إمام.
وقع الرجلان في وئام. سكنا معا أحد أحياء الجيزة. ثمّ ارتبطا… أحمد يكتب وإمام يُغنّي، حتى صارا ثنائيا معروفا، لا غنى لأحدهما عن الآخر.
“كنتُ مقهوراً وأرى القهر من حولي أشكالا ونماذج… كان هؤلاء الكبار منهمكين في نهب الورش، بينما يموت الفقراء كل يوم دفاعا عن مصر”.
شكّل هذا الثنائي حالة خاصة في مصر آنذاك. حتى إن الحارة التي كانا يقطنان بها تحوّلت إلى قبلة للمثقفين.
على امتداد هذا التعاون، نجحا في أشياء كثيرة. أثارا الشعب وأيقظا وعيه من الغيبوبة، وحفّزا هممه ضد الديكتاتورية الحاكمة.
“الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا”، “بقرة حاحا”، “أنا الأديب ولا تعرفنيش”، و”يا مرحرح”… أغانٍ من بين أخرى قدّماها آنذاك.
وكان السجن مآلهما. لم يُفرج عنهما إلى أن توفيّ جمال عبد الناصر. ترأّس أنور السادات بعده مصر، وما لبث الرجلان أن عادا إلى الشعر والأغنية السياسية.
بلغ الخلاف أشده ثانية مع السادات. كانت لاذعةً سخريةُ أحمد فؤاد نجم في قصائد: “شعبان البقال”، “بيان هام”، “شيد قصورك”…
ثمّ صار الثنائي نزيلا شبه دائم في سجون النظام، إلى أن انفرج الوضع. ألغي قرار بمنع السفر كان قد صدر في حقّهما، وخاضا جولة فنية في عدد من الدول “العربية” والأوروبية.
لكنّ النهاية كانت قد اقتربت! فقد انفصل بعد ذلك الثنائي الأشهر في تاريخ مصر بعدما اتهم الشيخُ إمام أحمد فؤاد نجم بحب الزعامة وفرض الرأي، قائلا إنه لم يكن ليحصد الشهرة لولاه.
كذلك كان في الواقع. فقد أفل نجمُ أحمد فؤاد بعده، وربّما كان الانزواء اختياراً، أو آلمه الانفصال حدّ التخلي عن الكتابة… اقتصر ظهوره بعد ذلك على البرامج الإعلامية.
استمر كذلك إلى وفاته. ومما يُشهد له، وقوفه إلى جانب شباب مصر في ثورة يناير 2011.
كان أحمد فؤاد نجم قبل ذلك بعام قد انضم إلى حزب الوفد واستقال منه بعد فترة قصيرة بعد خلاف مع رئيس الحزب، إثر إقالة الصحافي إبراهيم عيسى من رئاسة تحرير صحيفة الدستور.
أسهم بعد الثورة بقليل في تأسيس حزب المصريين الأحرار. انخرط في العمل الحزبي آخر حياته، حاملا همّ المجتمع من داخل اللعبة هذه المرة.
لكنّ الحياةَ لم تُمهله أكثر… أسلمته للموت في الـ3 من دجنبر 2013 عن سنّ يناهز 84 عاما، واضعةً النقطة الأخيرة في حكاية “الشاعر البندقية”.
جميل جدا بتوقيق
مقال غني جدا
فعلا يستحق القراءة
الشعر القديم والرواية هما الافضل لي
هدا رائع
وووووواو رائع جدا
شكرا
تاريخ لا يعدو نفسه الحيات كانت بسيطة جدا
وانا من المعجبين بهدا الفنان كان شاعر من مهنة الكلمة
موفق
شاعر لا توقفه حدود
نعم