في مفهوم “الطاغية”: من سلطان الله في أرضه إلى “الرئيس المُخلّص”! 5/5 - Marayana - مرايانا
×
×

في مفهوم “الطاغية”: من سلطان الله في أرضه إلى “الرئيس المُخلّص”! 5/5

“أيها الناس إنّا أصبحنا لكم ساسة، وعندكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خول لنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا…”.

تابعنا في الجزء الرابع، حكاية الدولة الدينية مع اليهودية، ثم محاولة محاكاتها ووراثتها من قبل المسيحية وذلك حتى يتم تبرير إطلاق أيدي الحكام في السلطة…

في هذا الجزء الخامس والأخير، نواصل قراءتنا لكتاب المفكر المصري إمام عبد الفتاح إمام، “الطاغية… دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي”، الذي سنتابع منه ظهور نغمة التفويض الإلهي في التاريخ الإسلامي قصد تبرير “الطغيان”.

بعدما نهج الصحابة بعد وفاة النبي الشورى لاختيار الخليفة، ظهرت بذور “ديمقراطية” (حسب إمام عبد الفتاح إمام)، لكن الذي حدث، أن الحكم بعد ذلك، راح يتحول شيئا فشيئا من الخلافة إلى الملك.

يقول محمود عباس العقاد في كتابه “عبقرية علي”: كان الموقف بين الخلافة والملك ملتبسا في عهد عثمان، كان نصفه ملكا ونصفه خلافة، أو كان نصفه إمارة دنيوية… وهكذا تقابل الضدان اللذان لا يتفقان، وبلغ الخلاف مداه”.

ثمة كتابات كثيرة عن استعداد الشرقيين لتأليه الحاكم. وبغض النظر عن مدى صحة هذه الفكرة، ما يهمنا أن المنطقة، منذ القديم، عرفت “ظل الله على أرضه”…

الخلاف بين علي ومعاوية، في تصور العقاد، كان صراعا بين الخلافة والنظام الملكي، أو بعبارة أخرى، بين الخلافة الدينية والدولة الدنيوية.

لكن، بمجيء الأمويين، حسموا الموقف تماما، إذ قضوا نهائيا على بذور “الديمقراطية” ومنعوها من النماء. مقابل ذلك، أخذت النزعة الاستبدادية تتوغل.

بل وتشبه خلفاء بني أمية بالملوك وأبهتهم؛ فكان قصر الخليفة في دمشق في غاية الأبهة، تزين جدرانه الفسيفساء، وأعمدته الرخام والذهب، وسقوفه الجواهر…

اقرأ أيضا: توريث جاه النبوة: سياسة للناس، توسيع للنفوذ ومراكمة للثروات! 3/2

استولى الأمويون على الحكم عنوة، هذا ما يقوله معاوية صراحة ودون مواربة… عندما قدم المدينة عام الجماعة (41هـ)[1]، تلقاه رجال قريش فقالوا له: “الحمد لله الذي أعز نصرك، وأعلى كعبك”.

لكن معاوية نأى عن الرد حتى صعد المنبر، فقال: “أما بعد، فإني والله ما وليتها محبة علمتها منكم، ولا مسرة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة…”.

بل ويضيف: “ولقد رضت لكم نفسي عمل أبي قحافة (أبو بكر)، وأردتها (الخلافة) على عمل عمر (ابن الخطاب)، فنفرت من ذلك نفارا شديدا…”!

معاوية، على هذا الأساس، طاغية، إذ قضى على معارضيه، ولم يتورع عن استخدام أحط السبل في سبيل هذه الغاية، من قتل وغدر ورشوة وخيانة…

منذ بداية حكمهم، وضع الأمويون ثلاث نظريات تبرر استيلاءهم على السلطة:

أولا: قالوا إن الخلافة حق من حقوقهم، وإنهم ورثوها عن عثمان بن عفان (كان من بني أمية)، لأنه نالها شورى ثم قُتل ظلما… فقاتلوا حتى استردوها.

ثانيا: أشاعوا في أهل الشام، بصفة خاصة، أنهم استحقوا الخلافة لقرابتهم لرسول الله.

ثالثا: دعموا ملكهم الاستبدادي بالقول إن الله اختارهم للخلافة وأتاهم الملك، وإنهم يحكمون بإرادته، ويتصرفون بمشيئته.

اقرأ أيضا: تساؤلات جديدة حول اجتماع السقيفة

حتى يؤكدوا هذه النظرية الأخيرة، أشاعوا مذهب الجبر[2]؛ أي أن السلطة يحددها الله، وليس للناس فيها رأي ولا مشورة، وأن الخليفة هو خليفة الله، وأن على الناس الاستسلام والطاعة.

كان زياد بن أبي سفيان، الذي عينه معاوية واليا على البصرة، أول من بشر بهذا المذهب… يقول في خطبته التي أعلن فيها أن الله اختارهم للخلافة، وأنهم يحكمون بقضائه ويعملون بإذنه:

مع الدولة الأموية، ستبدأ نغمة التفويض الإلهي في الظهور… النغمة التي ستتأكد بوضوح تام عند العباسيين، حتى يقول الخليفة المنصور: “أنا سلطان الله في أرضه…”.

“أيها الناس إنّا أصبحنا لكم ساسة، وعندكم ذادة[3]، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خول لنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا…”.

يومها، تبارى الشعراء في دعم هذه النظرية، ومن ذلك قول الأخطل لعبد الملك بن مروان:

وقد جعل الله الخلافة فيكم … بأبيض، لا عاري الخوان ولا جدب

ولكن رآه الله موضع حقها … على رغم أعداء وصدادة كذب

ما يهمنا… أنه مع الدولة الأموية، ستبدأ نغمة التفويض الإلهي في الظهور… النغمة التي ستتأكد بوضوح تام عند العباسيين، حتى يقول الخليفة المنصور: “أنا سلطان الله في أرضه…”.

اقرأ أيضا: علي اليوسفي العلوي يكتب: الإسلام: دين ودنيا، أم دين ودولة؟

ثم مضى الأمر يتفاقم، حتى ارتفعت نغمة التقديس إلى التأليه؛ فلا يجد ابن هانئ الأندلسي -مثلا-  أي حرج في أن يقول للخليفة الفاطمي المعز لدين الله:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار … فاحكم فأنت الواحد القهار

وكأنما أنت النبي محمد … وكأنما أنصارك الأنصار

ما عرضناه ليس تأريخا للدولة الأموية، لكنه نموذج متقدم من نظام حكم، غابت فيه الرقابة والمحاسبة وانتفت فيه حرية الرأي والمعارضة، وكان فيه الحاكم ممسكا بالسيف في يمينه والمال في يساره…

معاوية، على هذا الأساس، طاغية، إذ قضى على معارضيه، ولم يتورع عن استخدام أحط السبل في سبيل هذه الغاية، من قتل وغدر ورشوة وخيانة…

بمجيء الأمويين، حسموا الموقف تماما، إذ قضوا نهائيا على بذور “الديمقراطية” ومنعوها من النماء. مقابل ذلك، أخذت النزعة الاستبدادية تتوغل.

كما أنه أول من جعل الخلافة ملكية وراثية في أسرته، دون أن يكترث برأي الآخرين… صارت مسألة البيعة بعده صورية تماما، وصارت حرية الفكر تتصل اتصالا كبيرا بمزاج الخليفة، وهي آفة تعاني منها بعض الدول “الإسلامية” حتى أيامنا هذه…

اقرأ أيضا: محمد أنور السادات… “رجل الظل” الذي صار رئيسا 1/5

ثمة كتابات كثيرة عن استعداد الشرقيين لتأليه الحاكم. وبغض النظر عن مدى صحة هذه الفكرة، ما يهمنا أن المنطقة، منذ القديم، عرفت “ظل الله على أرضه”…

منذ فرعون… الذي كان “إلها” أو “ابن الإله”، مرورا بالعصر الوسيط، حيث نجد الخليفة الذي عينه الله بحكمته ليسوس الناس لما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة…

إلى أن اختُرعت فكرة الزعيم الأوحد والمنقذ الأعظم والرئيس المخلص، ومبعوث العناية الإلهية، والمعلم والملهم الذي يأمر فيطاع… دون أن يُسأل عما يفعل أبدا!

لقراءة الجزء الأول: في مفهوم الطاغية: هل السلطة السياسية ضرورية في الحياة الإنسانية؟ 5/1

لقراءة الجزء الثاني: في مفهوم “الطاغية”: هذه 6 أشكال من الحكم تجثم على صدور الشعوب وتكرهها! 5/2

لقراءة الجزء الثالث: في مفهوم “الطاغية”: هكذا يحتفظ الطغاة بعروشهم… 5/3

لقراءة الجزء الرابع: في مفهوم “الطاغية”: ارتداء عباءة الدين… الحاكم “الإله” والحكم الثيوقراطي 5/4


[1]  العام الذي تنازل فيه الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان.
[2]  يرى الجبرية أن كل ما يحدث للإنسان قدر عليه أزلا، فهو مسير لا مخير، وأنه ليس للإنسان (باعتباره عبدا لله) أي إرادة، أو أن يرفض ويمتنع، فالله يجبر عبادة على ما يفعلون.
[3]  جمع ذائد، ومصدره ذود؛ أي الدفاع، عن حوزة الوطن مثلا.
تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *