في مفهوم “الطاغية”: ارتداء عباءة الدين… الحاكم “الإله” والحكم الثيوقراطي 5/4حين حاولت المسيحية محاكاة الدولة اليهودية ووراثتها...
كان اليهود أول من صاغ مصطلح الثيوقراطية، وهم أول من حاول إقامة الدولة الدينية… يعود ذلك إلى اعتقادهم بأن الله ميزهم عن الأمم الأخرى، وأن لهم عنده حظوة خاصة.
بعدما تابعنا في الجزء الثالث، كيف يحافظ الطغاة على عروشهم، في هذا الجزء الرابع، نتابع كيف ارتدوا عباءة الدين لتبرير إطلاق أيديهم في الحكم، دائما بالاعتماد على كتاب المفكر المصري إمام عبد الفتاح إمام، “الطاغية… دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي”.
تعود الثيوقراطية كمصطلح إلى اللغة اليونانية، وهي مركبة من مفردتين؛ ثيو وتعني الدين، وقراط وتعني الحكم، ومن ثم… فالثيوقراطية، يقصد بها نظام الحكم الذي يستمد فيه الحاكم سلطته المباشرة من الإله.
الواقع أننا نظلم الدين، كما سنرى لاحقا، حين ننسب إليه هذا الحكم، الذي يكون فيه الحاكم طاغية باعتباره الإله أو ابنه أو خليفته في الأرض… لا يكبحه في ذلك سوى ضميره، أو حساب الإله في الآخرة.
لما كانت الحياة (الدنيا) بغير قيمة، حسبما حاول المسيح أن يوضحه، فإنها أصبحت عبئا مؤلما، على البشر أن يتحملوه ليعبروا إلى الحياة الأبدية… من هذه الأعباء المؤلمة، محنة الحكم المطلق أو حكم الطاغية…
بيد أن كثيرا من الطغاة الذين ارتدوا عباءة الدين، لم يكن لديهم أي ضمير في الواقع، كما أن بعضهم الآخر، جمع الفقهاء ليصدروا فتوى تقر بأنه ليس على الحاكم باسم الدين أي حساب ولا أي عقاب…
كان اليهود أول من صاغ مصطلح الثيوقراطية، وهم أول من حاول إقامة الدولة الدينية… يعود ذلك إلى اعتقادهم بأن الله ميزهم عن الأمم الأخرى، وأن لهم عنده حظوة خاصة.
وفق ما عبرت عنه آيات العهد القديم، فالفكر السياسي اليهودي، يمكن أن يعد أقدم ضروب الحكم الديني…
اقرأ أيضا: “الأصولية” في اليهودية: بين لعنة المنفى وغواية الأرض (الجزء الثالث)
الشعب اليهودي يعتقد أن له قومية ثيولوجية… حسب ما جاء في سفر التثنية، فإن “إسرائيل يحكمها الله بصورة مباشرة”.
لكن اليهود أفسدوا هذه الدولة عندما أفسدوا علاقتهم بالإله، فلم يرعوا عهدا ولا ذمة حسب ما جاء في ذات السفر: “الرب تكافئون بهذا يا شعبا غبيا غير حكيم؟”.
مقاومة الحاكم، الذي يستمد سلطته السياسية من الله، تعني بحسب بولس، عصيان الإرادة الإلهية ومعارضة الترتيب الإلهي.
يعتقد الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل، في كتابه “تاريخ الفلسفة الغربية”، أن محاولة إقامة الدولة المسيحية، لم تكن سوى محاولة لمحاكاة الدولة اليهودية ووراثتها.
يقول، حسبما يورده الكتاب: “لقد كانت الدولة اليهودية إبان العصر الأسطوري الذي ساده “القضاة”، أو إبان الفترة التاريخية التي أعقبت العودة من الأمر البابلي، دولة دينية، ولقد كان على الدولة المسيحية أن تحذو حذوها…”.
اقرأ أيضا: “الأصولية” في المسيحية: حين تنتصب الديمقراطية عائقا! (الجزء الرابع)
هكذا، حاول الملوك، خلال العصور الوسطى، ارتداء عباءة الدين أو الادعاء بأنهم يستمدون سلطانهم من الله تبريرا لسلطتهم المطلقة… لم يكن ذلك في الواقع سوى محاولة لإحياء “الدولة اليهودية”!
لكن ما كان موقف المسيحية كديانة من هذا الحكم المطلق؟ وكيف بلغ الأمر بالملوك أن يقولوا مثلما قال جيمس الأول ملك إنجلترا: “إننا نحن الملوك، إنما نجلس على عرش الله في الأرض”؟
حين ضعفت الإمبراطورية الرومانية، لم يعد مناسبا القول إن الأباطرة يمثلون الله في أرضه… فكيف يمكن لملك ضعيف أن يستمد السلطة من الله؟
خلاف الجسد الذي اهتم به اليهود، ركّز المسيح (النبي) على فكرة الروح، فحاول أن يوقظ في كل فرد الاهتمام بالحياة الروحية، وأن يلفت انتباهه إلى عالم جديد يحمله بداخله.
كان من الطبيعي إذن ألا تحتوي تعاليمه، وفق ما تقتضيه البشارة، على أي عقيدة سياسية.
لكن… لما كانت الحياة (الدنيا) بغير قيمة، حسبما حاول المسيح أن يوضحه، فإنها أصبحت عبئا مؤلما، على البشر أن يتحملوه ليعبروا إلى الحياة الأبدية…
اقرأ أيضا: التصوّف المسيحي… حكايةُ التمرّد على دين الكنيسة المتعالي!
من هذه الأعباء المؤلمة، محنة الحكم المطلق أو حكم الطاغية… حتى إن المسيحية أقرت مع بولس (القديس) وجود الرق، بل واعتبرته من صنع السماء، لا حيلة للإنسان فيه.
من هنا، جاءت عبارات بولس التي دعم بها الطغاة ملكهم، لأنها دعوة واضحة للعبيد أن يتحملوا العبودية في صبر وتقوى: “أيها العبيد أطيعوا في كل شيء ساداتكم… والظالم سينال ما ظلم به، وليس ثمة محاباة”.
القديس أوغسطين في نهاية القرن الـ4م، كان أقوى الفلاسفة المسيحيين الذين دافعوا عن مفهوم الطاعة، وآمنوا بأن كل سلطة أرضية قائمة بأمر من الله.
بولس يعتبر بصورة أوضح في رسالته لأهل رومية، أن سلطة الطغاة مستمدة من الله:
“لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، فليس من سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله… من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله. والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة، فإن الحكام ليسوا خوفا للأعمال الصالحة بل للشريرة”.
مقاومة الحاكم، الذي يستمد سلطته السياسية من الله، إذن، تعني بحسب بولس، عصيان الإرادة الإلهية ومعارضة الترتيب الإلهي.
اقرأ أيضا: داعش المسيحية
هكذا، ظهر الحق الإلهي المقدس للملوك… غير أن المسيحية بعد ذلك خطت خطوة مهمة، حين نفت بشدة الطبيعة الإلهية للحاكم، واعتبرته بشرا، وإن كان يتمتع بسلطان من الله.
… سلطان ينبغي الخضوع له، والامتناع عن مناقشته، وإرجاؤه إلى الله ليحاسب الملوك في الدار الآخرة!
المفارقة كمنت لاحقا في آراء زعماء الإصلاح الديني أو المذهب البروتستانتي: مارتن لوثر وجون كالفن، إذ بدا معهما أن إضفاء القداسة على الحاكم مرتبط بالفكر الديني المسيحي.
بيد أنه حين ضعفت الإمبراطورية الرومانية، لم يعد مناسبا القول إن الأباطرة يمثلون الله في أرضه… فكيف يمكن لملك ضعيف أن يستمد السلطة من الله؟
في أثناء ذلك، كانت الكنيسة تتطور وتتعاظم أملاكها حتى أصبحت من أكبر ملاك الأرض في أوروبا، كما نمت قوتها مقابل ضعف الأباطرة.
هكذا، ظهر ما يسمى بالحق الإلهي غير المباشر… بمعنى أن الحكام يستمدون سلطتهم من الله، لكنهم يمارسونها بموجب رضا الشعب المسيحي.
اقرأ أيضا: عبد الدين حمروش يكتب: الدولة المدنية والدولة الديمقراطية
بكلمات أخرى، لا يختار الله الحكام مباشرة، إنما يوجه أحداث التاريخ والمجتمع توجيها بمقتضاه يختار المسيحيون بأنفسهم حكامهم!
الفكرة كانت… ألا يكون الحاكم شرعيا إلا بعد أن تقوم الكنيسة بآداء بعض الطقوس، التي تنبئ عن رضاها عنه، وعن كونها هي التي ربطت الحاكم بشعبه.
تعود الثيوقراطية كمصطلح إلى اللغة اليونانية، وهي مركبة من مفردتين؛ ثيو وتعني الدين، وقراط وتعني الحكم، ومن ثم… فالثيوقراطية، يقصد بها نظام الحكم الذي يستمد فيه الحاكم سلطته المباشرة من الإله.
هذه النظرية ظلت قائمة حتى عصر النهضة، مع أنها استمرت بعده مع بعض الملوك الأقوياء، مثل لويس الرابع عشر في فرنسا، الذي يقول: “إن سلطة الملوك مستمدة من تفويض الخالق، فالله مصدرها وليس الشعب، والملوك مسؤولون أمام الله وحده عن كيفية استخدامها”.
ينبغي أن نشير أيضا بالحديث عن الطغيان في المسيحية، إلى أن القديس أوغسطين في نهاية القرن الـ4م، كان أقوى الفلاسفة المسيحيين الذين دافعوا عن مفهوم الطاعة، وآمنوا بأن كل سلطة أرضية قائمة بأمر من الله.
اقرأ أيضا: حسين الوادعي: كانوا مثلنا…
المفارقة كمنت لاحقا في آراء زعماء الإصلاح الديني أو المذهب البروتستانتي: مارتن لوثر وجون كالفن، إذ بدا معهما أن إضفاء القداسة على الحاكم مرتبط بالفكر الديني المسيحي.
فمع أنه كان لهما دور ثوري بالغ الأهمية في الفكر المسيحي، إلا أن آراءهما السياسية ظلت بحسب إمام عبد الفتاح إمام، شديدة الرجعية، بالغة التخلف، إذا ما قورنت بأفكارهما الإصلاحية…
كثير من الطغاة الذين ارتدوا عباءة الدين، لم يكن لديهم أي ضمير في الواقع، كما أن بعضهم الآخر، جمع الفقهاء ليصدروا فتوى تقر بأنه ليس على الحاكم باسم الدين أي حساب ولا أي عقاب…
مثل ذلك ما يقوله مارتن لوثر، على نحو يقدم حجة دينية قوية لصالح حكم الطاغية:
“لو كان لا بد لنا من معاناة الألم، فخير لنا أن نعانيه على يد الحكام أفضل من أن نعانيه على يد رعاياهم، ذلك أن الرعاع لا يعرفون الاعتدال ولا يعرفون حدا…”!
أو قوله: “أمراء هذا العالم آلهة، والناس العاديون هم الشيطان… إني لأفضل أن أحتمل أميرا يرتكب الخطأ على شعب يفعل الصواب”!
في الجزء الخامس والأخير نتابع ظهور نغمة التفويض الإلهي في التاريخ الإسلامي كمبرر لـ”الطغيان”.
لقراءة الجزء الأول: في مفهوم الطاغية: هل السلطة السياسية ضرورية في الحياة الإنسانية؟ 5/1
لقراءة الجزء الثاني: في مفهوم “الطاغية”: هذه 6 أشكال من الحكم تجثم على صدور الشعوب وتكرهها! 5/2
لقراءة الجزء الثالث: في مفهوم “الطاغية”: هكذا يحتفظ الطغاة بعروشهم… 5/3
لقراءة الجزء الخامس: في مفهوم “الطاغية”: من سلطان الله في أرضه إلى “الرئيس المُخلّص”! 5/5