حرص المخزن على إعادة إنتاج نفسه… هكذا فشلت البعثات التعليمية المغربية ونجحت اليابانية في تحديث بلادها 3/2لماذا تقدمت اليابان وتخلف المغرب؟
في حين منحت البعثات اليابانية بلدها وزراء وفلاسفة ومهندسين وفنانين وجنرالات… ومجمل ما صنع تاريخ اليابان الحديث بسلبياته وإيجابياته، كان أن انخرطت الكفاءات المغربية في مسلسل الأزمة، فلم تتمكن من نقل صنوف المعرفة الغربية إلى العجلات التنموية المغربية.
نواصل قراءتنا في كتاب “البعثات التعليمية في اليابان والمغرب من أربعينيات القرن الـ19 إلى أربعينيات القرن الـ20… تباين المقدمات واختلاف النتائج”، لمؤلفه الباحث المغربي يحيى بولحية.
بعد جزء أول تابعنا فيه السياق العام الذي جاء فيه الكتاب ومختلف الأسئلة التي يحاول الإجابة عنها، في هذا الجزء الثاني، نتابع ما يخلص إليه الباحث من أسباب لنجاح البعثات التعليمية اليابانية وفشل لتلك المغربية في تحريك عجلة التحديث والتنمية.
شمولية التعليم الياباني والهواجس العسكرية المغربية…
كانت الصدمة العسكرية عنيفة بعد الهزائم المتتالية التي منيّ بها الجيش المخزني في معركتي إسلي وتطوان (أواسط القرن 19م).
حاول المخزن حينها فهم أسباب الهزيمة، لكنه وفقا للباحث، لم يوظف أيا مما توصل إليه توظيفا فاعلا وإيجابيا.
اقرأ أيضا: حزن الظن: معركة وادي المخازن أو عندما يَصُمُّ رنين الذهب عقل التاريخ
… فبدلا من أن يؤسس لسكة تنموية، ينخرط المجتمع في إنتاجها ورعايتها والدفاع عن تعاقدتها، يقول الباحث، اهتم فقط بتزويد مؤسسته بالأطر اللازمة قصد إعادة إنتاج اختياراته التقليدية.
هكذا، كان أن ركّزت البعثات التعليمية المغربية على التكوين العسكري، ومعظم أفرادها تخصصوا في هذا الميدان ليس إلا.
حين يستعرض الباحث الوفود التعليمية المغربية التي سافرت للدراسة في أوروبا والولايات المتحدة، لا يجد ضمنهم من اهتم بدراسة النظريات الاقتصادية والفلسفية والسياسية، أو العلوم الرياضية والفيزيائية.
بينما في المقابل، نجد أن البعثات التعليمية اليابانية لم تسلك الدرب ذاته.
إحدى هذه البعثات، مثلا، زارت بين عام 1871 و1873م معظم دول الغرب وأعدت تقريرا مكونا من مائة مجلد في خمسة فصول نشرته عام 1878.
هذا التقرير تضمن كل مشاهدتها المفصّلة حول المدارس والمجالس النيابية والمصانع والجيوش والسجون… بمعنى أن اليابانيين، بادروا إلى جمع أكبر قدر من المعلومات عن الغرب ومصادر قوته.
اقرأ أيضا: “المخزن”… تاريخ طويل من الأسئلة! (الجزء الأول)
الذي حدث أن أفراد البعثات اليابانية اكتشفوا غربا آخر… غرب تتأسس قوته على النظريات العلمية والمقولات الفلسفية والعلوم التطبيقية، ولا يعد فيه الجانب العسكري سوى تجليا لعناصر القوة الأخرى.
من ثمّ، درس الطلبة اليابانيون في الحقول المعرفية المختلفة، إلى أن تمكنوا من تكوين نخب فكرية وعلمية وسياسية متميزة.
السقف في المملكة لم يتعد حدود تجديد مؤسسة المخزن، ومدّها ببعض الأطر المدربة على أمل أن تعيد إليها القوة.
ومما يدل أيضا، وفق الباحث، على وجود رؤية وأهداف واضحة لمسيرة الإصلاح الذي نشدته الحكومات المتعاقبة، استقبال الجامعات اليابانية في الآن ذاته لخبراء أجانب من دول غربية في نفس التخصصات التي تكوّن فيها أفراد البعثات.
أما في المغرب، فقد اعتقد المخزن أن الغرب لم ينتصر سوى بتفوقه العسكري.
هكذا، حين يستعرض الباحث الوفود التعليمية المغربية التي سافرت للدراسة في أوروبا والولايات المتحدة، لا يجد ضمنهم من اهتم بدراسة النظريات الاقتصادية والفلسفية والسياسية، أو العلوم الرياضية والفيزيائية.
اقرأ أيضا: إذا طالع العرب أنفسهم في مرايا يابانية، فهذا ما سيرونه… (الجزء الأول)
السقف في المملكة لم يتعد حدود تجديد مؤسسة المخزن، ومدّها ببعض الأطر المدربة على أمل أن تعيد إليها القوة.
في اليابان، كان الهدف من وراء البعثات أكبر سقفا… كان الهدف، إعادة تشكيل المجتمع والدولة بشكل جذري لإحداث قطيعة جلية في نسق الممارسة السياسية والإدارية، حتى ينتقل المجتمع من طور الانغلاق وإنتاج الأزمة إلى طور الامتداد والمنافسة.
اندماج المتعلمين اليابانيين وتهميش الكفاءات المغربية…
نجح أفراد البعثات التعليمية اليابانية في خدمة المشروع التحديثي للإمبراطورية… فـ”هيروبومي إيتو”، مثلا، الذي درس في الغرب عاما ونصف، أصبح رئيسا للوزراء ثلاث مرات (1892-1901).
حين أرسله الإمبراطور إلى ألمانيا للاطلاع على التجربة البروسية، وضع مشروع دستور ياباني… ولم يكن للإمبراطور سوى تتويج جهده، بإعلان المشروع دستورا للبلاد عام 1889.
المخزن، ببساطة، لم يكن يهدف إلى إحداث إصلاح عام، إنما كان يريد إعادة إنتاج نفسه ليس إلا.
لدينا أيضا مثال “موري أرينوري”، الذي تلقى تعليمه بإنجلترا في ستينيات القرن التاسع عشر.
حين عاد إلى بلاده، شغل منصب أول وزير للتعليم، وأسس المدرسة اليابانية الحديثة، كما تحققت في عهده مكاسب مهمة، منها تزايد نسبة المتعلمين وإضفاء الطابع القومي على مبادئ التعليم الياباني.
كذلك “ياماغاتا أريتومو”، الذي أُرسل إلى أوروبا لدراسة الأنظمة العسكرية الغربية. حين عاد، أنشأ الحرس الإمبراطوري عام 1870، وأصبح وزيرا للحرب في عام 1873، وقد أدخل إصلاحات عميقة على الجيش، كما شغل منصب الوزارة الأولى في أواخر القرن التاسع عشر.
اقرأ أيضا: من نيويورك. هشام الرميلي يكتب: الأمير النبيل…!
يمكن في المجمل رصد نماذج عديدة من المتعلمين اليابانيين في الخارج، الذين تقلدوا في الإدارة اليابانية الجديدة مناصب رفيعة المستوى.
… في هذا العهد بالضبط، الذي يعرف بـ”الميجي”، أصبحت المعرفة والتعليم في اليابان وسيلتين أساسيتين للترقي الاجتماعي.
الفئات المتنفذة داخل الدوائر المخزنية، يضيف الباحث، بذلت جهدها لإجهاض إدماج أفراد البعثات التعليمية في صلب الإدارة المركزية المغربية… حتى لا تطيح بها.
بالمقابل، كانت الصورة في المغرب مختلفة، فمعظم الطلبة العائدين آنذاك لم تسند لهم وظائف تنسجم مع التخصصات التي درسوها.
إذا أخذنا مثلا نموذج مبتعث يدعى الزبير سكيرج، شارك في بعثة 1874 إلى بريطانيا، نجد، وفق الباحث، أنه مُدح وزملاؤه في قابلية التعلم والفهم والنجابة… لكنه عندما عاد إلى المغرب، لم يكن سوى مساعدا للمهندسين الإنجليز في تركيب المدافع وإصلاح بعضها… بل وظل لفترة مُعطّلا عن العمل!
اقرأ أيضا: “المخزن”… بين هاجس الاستمرارية والواقع التاريخي الجديد (الجزء الرابع والأخير)
بلغ الأمر ببعض الطلبة حد التمرد على سوء أحوالهم بعد إتمام التكوين في الخارج، موجهين نقدا لاذعا إلى الدوائر المخزنية، مثل محمد بن النجار، الذي قال: “النصارى كيعلمو العقل والمسلمين كيحفيوه”.
لكن السؤال هنا… ما الذي دفع المخزن إلى تهميش هذه الكفاءات دون أن يستفيد من قدرتها في قضايا التحديث؟
… في هذا العهد بالضبط، الذي يعرف بـ”الميجي”، أصبحت المعرفة والتعليم في اليابان وسيلتين أساسيتين للترقي الاجتماعي.
الإجابة التي يخلص إليها الباحث ترتبط بالمقدمات التي أسست لهذه البعثات. المخزن، ببساطة، لم يكن يهدف إلى إحداث إصلاح عام، إنما كان يريد إعادة إنتاج نفسه ليس إلا.
بل إن الفئات المتنفذة داخل الدوائر المخزنية، يضيف الباحث، بذلت جهدها لإجهاض إدماج أفراد البعثات التعليمية في صلب الإدارة المركزية المغربية… حتى لا تطيح بها.
اقرأ أيضا: هشام روزاق يكتب: من يحكم المغرب؟ … “جهات ما”
إلا أن الباحث يقف أيضا على جانب موضوعي أسهم بدوره في تهميش هذه الكفاءات.
كانت توجد في المغرب آنذاك بعثات عسكرية أوروبية. هذه البعثات جاءت في إطار تنافسي استعماري، ولتمكين نفوذها السياسي، لم تكن ترغب في وجود خبرات وطنية.
ركّزت البعثات التعليمية المغربية على التكوين العسكري، ومعظم أفرادها تخصصوا في هذا الميدان ليس إلا.
لذا، كان أغلب المتعلمين المغاربة يعملون مرافقين شكليين لضباط هذه البعثات، وهو ما قضى على عناصر المبادرة والابتكار لديهم، ومن ثم قدرتهم على التطوير والتحديث.
هكذا، في حين منحت البعثات اليابانية بلدها وزراء وفلاسفة ومهندسين وفنانين وجنرالات… ومجمل ما صنع تاريخ اليابان الحديث بسلبياته وإيجابياته، كان أن انخرطت الكفاءات المغربية في مسلسل الأزمة، فلم تتمكن من نقل صنوف المعرفة الغربية إلى العجلات التنموية المغربية.
في الجزء الثالث نتابع كيف أدى تهميش الكفاءات إلى إفشال مشروع الإصلاح باكرا في المغرب.
لقراءة الجزء الأول: لماذا تقدمت اليابان وتخلّف المغرب؟ 3/1
لقراءة الجزء الثالث: صناعة مخزنية: هكذا أفشل تهميش الكفاءات باكرا مشروع الإصلاح بالمغرب… 3/3
المصادر و المراجع لم تذكر اي منهما هذا يعني كلامك اقرب للحلايقي