الدراسات الطبية: العلم يحتمل الخطأ… التدليس أيضا وغواية المال! 2/2
تابعنا في الجزء الأول حكاية أندرو وايكفيلد، الطبيب البريطاني الذي زيف دراسة ليسوق لقاحا خاصا به، وتأثير ذلك على الصحة العامة… وايكفيلد اتهم أيضا بتلقي أموال للقيام بذلك، والمال في الدراسات الطبية حكاية شر لا بد منه، كما نتابع في هذا الجزء الثاني.
أخطاء مؤثّرة
ماي 2020… نشرت “ذا لانسيت” دراسة تقول بأن الهيدروكسي كلوروكين غير مفيد لمرضى “كوفيد-19″، بل وقد يكون مضرا.
جاءت هذه الدراسة في وقت احتد فيه نقاش عالمي حول جدوى استخدام العقار بين قائل بفعاليته وآخر بمضاره.
مرة أخرى، ولأن الدورية مرجعية، كانت الدراسة مؤثرة… على نحو أن منظمة الصحة العالمية علّقت تجاربها السريرية على العقار، ودولا كثيرة أوقفت استخدامه في علاج المرضى.
هورتون نفسه يعترف في حديثه لـ”ليبراسيون”، بأن ما حدث، لو وقع في زمن مضى، أو في ظرف آخر على الأقل، لكان قد مرّ دون ينتبه إليه أحد.
ثم ماذا؟ بعد أقل من شهر، حذرت الدورية قراءها ونبهتهم إلى تساؤلات علمية جدية تطال الدراسة، ليقوم 3 من مؤلفيها بطلب سحبها.
أما رابعهم، سابان ديساي، رئيس شركة “سورجيسفير” الأمريكية لتحليل البيانات، فقد رفض ذلك مثيرا الشكوك حوله.
استندت الدراسة هذه إلى بيانات حصلت عليها الشركة من 671 مستشفى عبر العالم، تهمّ 96 ألفا و32 مريضا… كما تزعم.
“كما تزعم” لأن منبع الشكوك أساسا، أن الشركة رفضت البتّة مشاركة تفاصيل قاعدة بياناتها مع جهات تدقيق محايدة، بذريعة أن ذلك ينتهك اتفاقيات الخصوصية المبرمة مع المستشفيات.
يقول موقع “ذا ساينتيست”، المتخصص في الأخبار العلمية، إنه تواصل مع مستشفيات في أنحاء مختلفة عبر الولايات المتحدة، يسأل عما إذا كانت قد شاركت في هذه الدراسة…
لكنّه… لم يتلقَّ أي رد إيجابي!
العلم يحتمل الخطأ… والتدليس أيضا
لأنها دورية مرجعية… عدّ كثيرون نشرَ “ذا لانسيت” للدراسةِ كارثيا وسقوطا كبيرا.
كما أسلفنا القول، هناك أسباب كثيرة لذيوع الاهتمام بما تنشره الدوريات مثلها اليوم، منها أننا جميعا نترقب دراسة أو لقاحا يضع حدًّا لكابوس كورونا.
ريتشارد هورتون، رئيس تحرير الدورية، نفسه يعترف في حديثه لـ”ليبراسيون”، بأن ما حدث، لو وقع في زمن مضى، أو في ظرف آخر على الأقل، لكان قد مرّ دون ينتبه إليه أحد.
الدراسات بحاجة إلى تمويل… شر لا بد منه، إذ أن هذا التمويل، كثيرا ما يؤثر في نتائجها.
هذا الاعتراف، لوحده، يحمل في طياته الكثير، ودون أن نخوض فيه تفاديا لأي تعسف في التأويل، واضح أن هناك مشاكلَ مختلفة تعتري بعض الدراسات المنشورة في الدوريات مثل “ذا لانسيت”.
رغم ذلك، يظل النشر فيها معقدا للغاية، ومن هنا تكتسي سُمعتَها… دراساتٌ قليلة تنجح في الظهور على صفحاتها من أصل مئات تُرسل إليها.
إنها عمليةٌ تبدو متكاملة لوهلة؛ من خطواتها مثلا أن الدراسات تُراجَع أكثر من مرة، ومن قبل نظراء وخبراء خارجيين أيضا.
لكن الأخطاء الفادحة واردة… كما سبق في دراسة الكلوروكين، المشكلة كمنت في تدقيق البيانات، وبعد ماذا؟ بعد النشر!
التمويل… مُشكلة أخرى!
الدراسات بحاجة إلى تمويل… شر لا بد منه، إذ أن هذا التمويل، كثيرا ما يؤثر في نتائجها.
في العادة، يُدقَّق كثيرا في مصادر التمويل… على أن الأمر، وفق أهل العلم، لا يهم إلى حد كبير، إذا كانت الدراسة تستند إلى تجارب سريرية.
لكن… ماذا عن تلك التي تعتمد على الملاحظة فقط؟
نشرت صحيفة “ماريان” الفرنسية تحقيقا تقول فيه إن الخبراء الطبيين في المجالس العلمية المسؤولة عن تقديم المشورة للرئيس الفرنسي خلال أزمة كورونا، تلقوا 450 ألف يورو من شركات الأدوية.
أواخر أبريل الماضي، وبينما كان العالم في غمرة اكتشاف الفيروس وفهمه، ظهرت دراسة فرنسية تقول إن المدخنين أقل عرضة للإصابة به.
لاحظت هذه الدراسة، تقول، أن 5 بالمائة فقط من عينة ضمت 500 مريضا بـ”كوفيد-19″، كانت من المدخنين.
أياما بعد ذلك، منظمة الصحة العالمية تُحذر من أن المدخنين قد يواجهون أعراضا أكثر حدة في حالة الإصابة بالفيروس.
ثم كتبت على صفحتها بـ”فيسبوك”: حاولت جماعات ضغط مؤيدة للتبغ التلاعب في صناع القرار في ظل تفشي كورونا، من أجل إدراج متاجر التبغ على أنها ضرورية (في وقت الإغلاق).
يمكن إذن أن نحدس، ودون مجهود مكلف، من يقف وراء دراسة مثل هذه ومن ثَمّ الغاية منها.
علاقة بالموضوع…
غيرَ إنقاذ البشرية، لدى كثير من شركات الأدوية حسابات أخرى تماما… إنها شركات في آخر المطاف!
بداية أبريل الماضي، نشرت صحيفة “ماريان” الفرنسية تحقيقا تقول فيه إن الخبراء الطبيين في المجالس العلمية المسؤولة عن تقديم المشورة للرئيس الفرنسي خلال أزمة كورونا، تلقوا 450 ألف يورو من شركات الأدوية.
هل يُعدّ هذا أمرا مثيرا للريبة؟ نعم وإلى حد بعيد ولولاه ما صدر في تحقيق…
هذا الوضع يُثبت أن الزمن العلمي يجب أن يكون منفصلا عن الزمن الإعلامي… الطابعُ المُلح للجائحة، لا يبرّر صدور دراسات سيئة!
من هذه الشركات، “MSD” الأمريكية، مثلا، وكانت قد أعلنت أنها تعمل من أجل العثور على علاج لكورونا. “روش” السويسرية أيضا كانت تسوق لطقم اختبار سريع للكشف عن الفيروس.
التحقيق تابع كذلك أن طبيبة عدوى، تُدعى كارين لاكومب، انتقدت منهجية دراسة الطبيب ديديي راوول حول الكلوروكين… ثمّ بعد البحث، تبين أنها حصلت على مزايا مالية من مختبر “جيلياد” الأمريكي الذي يُعدّ لقاحا لكورونا.
المعادلة بسيطة وتبدو بغير حاجة إلى حل: خبراء طبيون يسدون النصح…. ويتلقون، في نفس الوقت، هدايا مالية من شركات الأدوية.
من يدري؟ ربما يذهب الأمر بأحدهم حد نشر دراسة مزيفة لترويج لقاح شركة ما… تماما كما فعل وايكفيلد!
لا تبرير
بالموازاة مع تعبير “ذا لانسيت” عن قلقها حيال دراسة الكلوروكين، عبّرت دورية “نيو أنغلند جورنال أوف ميدسين”، عن قلقها أيضا بشأن دراسة نشرتها أُعدّت بناء على قواعد بيانات “سورجيسفير”.
بالمناسبة، “التعبير عن القلق” عبارة رسمية تستخدمها الدوريات العلمية للإشارة إلى احتمال وجود مشكلة في الدراسة.
يقول الطبيب الفرنسي، جيلبير دوراي، إن هذه التنبيهات مؤشر لسحب الدراسة… والسّحبُ بالنسبة له، “كارثة” لأن الدوريتين تُعتبران مرجعا في المجال العلمي.
ما الذي يحدث مع هذه الدوريات إذن؟
يُتابع في تغريدة: هذا الوضع يُثبت أن الزمن العلمي يجب أن يكون منفصلا عن الزمن الإعلامي… الطابعُ المُلح للجائحة، لا يبرّر صدور دراسات سيئة!
لقراءة الجزء الأول: الدراسات الطبية… هل انكشف المستور في زمن كورونا؟ 2/1