عبد القادر الشاوي يكتب لمرايانا: السلطة في زمن كوفيد المغربي… الاستثناء في مقابل الحرية والحقوق 3/3
ربما كان العنصر الأكثر بروزا، منذ بداية الحجر واهتمام السلطات المعنية والمختصة بالحديث عن انتشار الفيروس وكثرة الإصابات مع قلة أسباب الكشف السريع أو الممكن، هو السلطة في أبسط تعريف لها وأعقده، وكذا في مفهوم السلطة ضمن النظام السياسي القائم من الناحيتين الدنيوية والروحية. هذه الكلمة المختزلة التي إذا تفرّعَتْ أكْثَرَتْ في المعاني والتداعيات وأحوال الوجود ومستويات الأجرأة من الناحية العملية
… وجدت نفسي، مثلما وجد الآخرون أنفسهم فيما يبدو، في إطار الحجر الصحي المعلن أمام ظروف استثنائية، بعضها ليس من طبيعة الاستثناء الذي يتقرر ب(مرسوم) قانوني حين يجب أن يتقرر في شروط ديموقراطية مقبولة إن لم تكن حقيقية. وقد وجدتُ، في قلب تلك الظروف، مجموعة من الأزواج المتعارضة تتداعى فيها المواقف والتصورات على النحو التالي (تابعنا عنوانيها الأولين في الجزء الثاني):
3- العنف في مقابل العصيان والخرق
وربما كان العنصر الأكثر بروزا، منذ بداية الحجر واهتمام السلطات المعنية والمختصة بالحديث عن انتشار الفيروس وكثرة الإصابات مع قلة أسباب الكشف السريع أو الممكن، هو السلطة في أبسط تعريف لها وأعقده، وكذا في مفهوم السلطة ضمن النظام السياسي القائم من الناحيتين الدنيوية والروحية. هذه الكلمة المختزلة التي إذا تفرّعَتْ أكْثَرَتْ في المعاني والتداعيات وأحوال الوجود ومستويات الأجرأة من الناحية العملية إلخ. والسلطة أيضا قد تُؤوَّل على وجه العنف المادي والمعنوي الذي قد يصدر في الاستخدام عن التقدير المناسب للظرف زمانا ومكانا، وللحالة وللعوامل الموجودة ذات التأثير الواضح أو المباشر في غالب الأحيان. ولا يهمني من السلطة هنا إلا التطبيق الحرفي أو الموكول إلى إجراء (الحجر، الطوارئ…) يصدر عن جهاز له الاختصاص، بسبب الوظيفة، في بنية الدولة، أو الغاية في المجال الاجتماعي أو غيره.
كل هذا، في علاقة بالحجر والطوارئ والتخويف والمراقبة والتحكم، وبالعصيان إن كان، وبالخرق حين يتِمُّ، هو الذي حرّك (النيابة العامة) تحريكا، وحرك قبلها بعض مصالح وزارة الداخلية، فتم القبض على بضع مئات ألف من الناس، وَوَجَّهت لهم تهما مختلفة معظمها يتعلق بالخرق أو بالعصيان… ولكننا لم نسمع أنَّ من بين التهم ما قد ينبئ عن أوضاعهم الاجتماعية أو الاقتصادية أو النفسية أو الروحية أو الدعوية، مثلما لم ندرك مدى تمثل الناس، بالمقابل، لكافة التصورات والإجراءات التي مست حياتهم سلبا أو إيجابا، وما قد يكون للدين، مثلا، من دور في الإيمان والتسليم بالأقدار وغيره.
أما الوجه الآخر، ولعله أكثر أهمية، فهو المُتَسَلِّط أو الذي يقوم بالدور الموكول إليه ضمن التراتبية الإدارية أو مسؤولية الجهاز… إنْ كانت مسؤولية الجهاز ظاهرة ومعروفة. فالمُتسلط في الواقع، من لحم ودم وأفكار قبلية وتوجيهات معينة وقدرات بدنية كذلك، هو الذي يمارس، وإن كان لا يشرع، السلطة المباشرة بالمعاني المذكورة. والمهم في هذا أنه يمارسها فعليا على النحو الذي يدركه من واجب أو ضرورة تطبيقها، بالزيادة في العنف أو بالتقليل منه، بالمواجهة المباشرة أو بالتحكم عن بعد… أو بوسائل أخرى قد تكون رقمية كذلك. ولذلك كان المؤدى المباشر، لكل هذا، أن استعمال السلطة يقود مباشرة إلى حصول الضرر، أيا كان نوع الضرر، على من وقعت عليه، وكذلك على من لم تقع عليه بشكل مباشر. والتعريف السياسي للسلطة هو ممارسة السيطرة والتحكم، بصرف النظر عن المَحْمُولين اللذين تحملانه في الدلالة على القوة أو الشدة، اللين أو الرَّخَف. من هنا كان ذلك الاستعمال (الحقوقي) لِمَا يسمى ب(الاستخدام المفرط للقوة) لأن فيه عنفا أكبر في الإذاية وهكذا.. ومع علمي بجميع التقييدات المرتبطة بالسلطة، وخصوصا في الظروف الاستثنائية التي يفهم منها أن (حياة) الأمة قد تكون مهددة، أو كارثة ماحقة، أو أحداث عنف واسعة لا تبقي ولا تضر… إلخ، إلا أن الإقرار بممارسة السلطة من قبل جهة ما يجعلها سلطة مُمَارَسَة حسب التأويل الذي تستخرجها تلك الجهة للحالة المباشرة التي تبرر لها ذلك.
إن ممارسة السلطة رهين بالتبرير الذي يبرر به المُتسلط دورها وقوتها والأضرار التي قد تنتج أو لا تنتج عنها في الاستخدام. هذا واضح تماما وقد لا تجد عليه في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، في مادته الرابعة (حرية الرأي والتعبير، حرية التنقل، المحاكمة العادلة وسواها)، مثلا، أي تقييد، لأن العهد يشرح الالتزام ولا يقرر التدبير في الممارسة بطبيعة الحال. أي أن للسُّلَط جميع الصلاحيات، والتي قد لا تخطر على بال في إطار التقدم التكنولوجي المُطّرد، لممارسة السيطرة والتحكم على قدر ما تراه لها من الكفاية والدرجة لتحقيق الخضوع أو الاستسلام أو الزوال… حتى أن التقييدات الواجبة لاعتبار من الاعتبارات (أن تكون، مثلا، في أضيق الحدود، عدم التمييز المقرر في الأصل الاجتماعي والدين واللغة والجنس والعرق..) قد لا تَحُدّ من ذلك، لأن من مكانيزمات ممارستها أسلوبَها وتقديرَ دورها في علاقة بالأحداث الموجبة لها أو تلك التي لا تستوجبها أصلا.
4- الاستثناء في مقابل الحرية والحقوق
من هنا، فيما أرى، لم تكن السلطة، على تعدد مستوياتها تشريعية قضائية تنفيذية روحية… إلا لتنظيم المجتمع ب(الإكراه المتوافق عليه) طلبا للامتثال أو للخضوع أو لما هو في حكمهما، وما ذلك إلا لأنها قد تمكن المُتسلط من القيام بأي فعل دون أن يمنعه، في الظروف الاستثنائية، شيء من ذلك تقريبا. أضيف إلى هذا أن السلطة في جميع الثقافات واللغات تتضمن، على الأرجح، القدرة والإمكانية والطاقة والرخصة للقيام بفعل معين، بل ولعلها تتضمن القوة الجسدية والثقافية في العلاقة بالآخر الذي يقع عليه التسلط. وفي العربية تحديدا قد نجد ل- سَلُطَ، مثلا، معنى مَنْ طال لسانه بالكلام وصار جارحا، وسَلّطّهُ عليه أي مكنه منه وحكّمه فيه وجعل له سلطة عليه. والسَّلْطُ هو الشديد، وهو اللسان الطويل الحاد الذي يخشاه الأقارب والأباعد… فكيف لا يُقطَع لِسُلطَةِ العربية علينا لِسَانٌ بالقوة وهي التي تداعت لها النفوس، وذَبُلت معها العقول، وخارت لها الهمم، واصفرت منها الأبدان، وترهلت وبطلت معها العادات والروابط والمسافات والأشغال… أما ما كان من الحقوق المكتسبة والحريات العامة، فرغم أنه لم تكن حولها قرارات ولا إجراءات قد يفهم منها منع أو تقليص، إلا أنها، في الواقع، لم تكن تحتاج إلى ذلك، لأنها متضمنة في مفهوم ممارسة السلطة بيد المُتسلط الذي لا يعرف في تأويله لها أي حد بلاغي أو تفسيري أو تأويلي. أما السبب فهو أنه لا يقرأها بل يُسْلِبُ بها، شئتَ أم أبيْتَ، ما أنتَ، من باب الاحتمال، قادر على الإتيان به (بلسانك الطويل الحاد) لو لم تكن السلطة رقابة أو تحكما.
فيما أرى، لم تكن السلطة، على تعدد مستوياتها تشريعية قضائية تنفيذية روحية… إلا لتنظيم المجتمع ب(الإكراه المتوافق عليه) طلبا للامتثال أو للخضوع أو لما هو في حكمهما، وما ذلك إلا لأنها قد تمكن المُتسلط من القيام بأي فعل دون أن يمنعه، في الظروف الاستثنائية، شيء من ذلك تقريبا.
وأنْ يكون كل هذا، في علاقة بالحجر والطوارئ والتخويف والمراقبة والتحكم، وبالعصيان إن كان، وبالخرق حين يتِمُّ، هو الذي حرّك (النيابة العامة) تحريكا، وحرك قبلها بعض مصالح وزارة الداخلية، فتم القبض على بضع مئات ألف من الناس، وَوَجَّهت لهم تهما مختلفة معظمها يتعلق بالخرق أو بالعصيان… ولكننا لم نسمع أنَّ من بين التهم ما قد ينبئ عن أوضاعهم الاجتماعية أو الاقتصادية أو النفسية أو الروحية أو الدعوية، مثلما لم ندرك مدى تمثل الناس، بالمقابل، لكافة التصورات والإجراءات التي مست حياتهم سلبا أو إيجابا، وما قد يكون للدين، مثلا، من دور في الإيمان والتسليم بالأقدار وغيره.
******
ها أنا أصل إلى المستوى الأبرز في كل ما أتيت على ذكره، وأختصره في هذا السؤال: هل كان بمقدور أفراد مجتمع ما أن يقاوموا الجائحة والحجر والموانع… بدون ضمان الحد الأدنى من العيش الاقتصادي في ارتباط بالسوق أو بالعمل أو بغير ذلك؟ والسؤال المرتبط بهذا أيضا: هل كانت الظروف الاستثنائية، بما تم فيها من إجراءات للمراقبة، ومبادرات للدعم والتضامن الاجتماعيين، ومنها بدعاوى الخير والإحسان، فضلا عن إسناد النسيج الاقتصادي في أهم قطاعاته المنتجة أو المصدرة وغير ذلك:
– من الفعالية والحسم بحيث مكّنت من وقف انتشار الفيروس وتطويق الجائحة بأقل الخسارات التي كانت منتظرة في الأرواح والاقتصاد؟
اقرأ أيضا: هشام روزاق يكتب: معنى الجائحة؟ أن تراهن دولة فاشلة على مواطن فاشل!
– ومن القدرة على الضبط الاجتماعي والسياسي يحقق للسلطة، وبالنتيجة للدولة، القدرة على التعبئة والتجنيد والاستمرارية؟
– ومن معرفة (النبض) الاجتماعي والفكري ودرجات الوعي الاجتماعي والسياسي الذي يقوم عليه التوازن والاستقرار، مهما كانت نسبيتهما، من خلال المعلومات التي توفرت لها، وبعضها بطرق جديدة ومختلفة، عن طريق التتبع والجمع والاستخدام الواسع لوسائل المراقبة والتحقُق؟
– ومن التأكيد المتجدد على أن الدولة، من خلال أجهزتها الأساسية وأعوانها المنتشرين، هي الساهر الوحيد، الممكن والمطلق، الذي لا يمكن أن يُعَوَّض دوره وتدخله وقدراته في حياة الناس والبلاد على جميع المستويات، بما في ذلك مواجهة الأخطار التي قد تتهددها في زمن الكوارث؟
وربما كانت هناك أسئلة أخرى تحتاج إلى معالجة مختلفة.
وفي جميع الأحوال فإنه بعد مرور شهور ذوات العدد على الحجر الصحي (في ارتباط مع حالة الطوارئ)، وربما أكثر من نصف سنة على ظهور الفيروس وما صاحبه من إجراءات في مختلف المناطق التي أصابها، وبصرف النظر عن النتائج التي تحققت أو يمكن أن تتحقق في تلك المناطق… فإن معرفة حقيقة الفيروس مخبريا ليست إلا في البداية، وأن اللقاح المنتظر للتغلب عليه بعيد المنال إلخ، وأما الإجراءات المتداولة (اللثام، التباعد…) للحد من انتشاره فمتناقضة رغم صرامتها، محيّرة في الاستعمال والتطبيق رغم أهميتها.
ومعنى هذا أن فكرة الغموض التي أشرت إليها في البداية لم ترتفع، بل وأصبح الحاصل أننا أمام مضاربات كلامية وتجارية وتصنيعية تتسم بالحدة والتسابق (والسرية كذلك) لم تزد الغموض هذا إلا غموضا آخر، أو هو وضوح لا يُدْرِك حقيقته إلا من كان على دراية مؤكدة بحقيقة الفيروس إن وجدت تلك الدراية. ومعناه أيضا أن الموانع، التي حَللتُ بعض جوانبها في هذا الموضوع، ما زالت قائمة، ولعلها تتجدد في كل مرحلة تقررها السلطات المختصة والمعنية، أي أنها لن ترتفع بدروها في الأمد القريب، وهي أيضا لا (علاج) لها إلا بالعلاج المحتمل للفيروس. غير أن المعطى الذي كان في الحسبان، وربما جرى استصغار دوره، هو أن قطاعات من المجتمع أخذت تفهم، بوعي نقدي، شيئا قليلا أو كثيرا مما يدور حولها، وأن فئات أخرى بدافع الحاجة لم تعد تَرْتَهِب بالإجراءات المتخذة، وأن القطاع الاقتصادي الذي تكبد خسائر فادحة، بصرف النظر عن أشكال الدعم، قد تضرر في جميع الاتجاهات: في علاقة بديناميته، وبالسوق، وبالمحيط الدولي… ثم كانت النتائج، فضلا عن الخسارات، كبيرة في الإنتاجية والمردودية، ناهيك عن تزايد البطالة… وللعرّاف أن يقول: إن الأفق الممكن سوف يتقرر، فيما يبدو، على ضوء تفاعل العوامل المشار إليها، أو سيكون لبعضها، الأقوى تأثيرا، الدورُّ المحفز.
لقراءة الجزء الأول: يا الحَجْر والطوارئ، يا كوفيد 19 ــ 1/3
لقراءة الجزء الثاني: زمن كورونا المغربي… التخويف مقابل الغموض والجهل 2/3