من مصر، محمد حميدة يكتب: مسلسل “الاختيار”، العقلية الماردينية والقتل المقدس - Marayana - مرايانا
×
×

من مصر، محمد حميدة يكتب: مسلسل “الاختيار”، العقلية الماردينية والقتل المقدس

وفق هذه العقلية، بمنطلقاتها الفكرية والفقهية، أنتج ابن تيمية كمًّا كبيرًا من الأفكار المشتبكة اشتباكًا معوّجًا مع إمكانات النص وطاقاته التعبيرية والبلاغية، سواء كان من القرآن أو من صحيح السنة، كما أنتج كمًّا كبيرًا من التلاميذ والأشياع والمناصرين، ومن يتبنّون هذه الأفكار ويقيمونها مقام النص والفريضة والسنة، ليتواصل مدّ العقلية “الماردينية” الممهورة بخاتم ومنطلق ابن تيمية

محمد حميدة، صحافي مصري

أثار مسلسل “الاختيار” الذي عرض على عدد من القنوات في مصر وخارجها خلال شهر رمضان المنصرم، الكثير من الجدل، خاصة فيما يتعلق بالإمام ابن تيمية، والفتاوى التي أصبحت من أهم مرجعيات التنظيمات الإرهابية، التي تقدس عمليات القتل والإرهاب باعتبارها صلب الدين والجهاد.

جدل حاصل بين فريقين يرى الأول أن الإمام افتُري عليه، ويرى الثاني أن الإمام كان متشددا في سياق عصره، وأن الضرورة ملحة لمراجعة هذه الفتاوى المتشددة وعدم تبريرها بسياقات الزمن أو الظرف الحاصل وقتها.

تعد فتوى ماردين من أخطر الفتاوى التي تستند إليها التنظيمات الإرهابية؛ وماردين هي مسقط رأس ابن تيمية، وتقع على الحدود التركية السورية، غزاها التتار المغول وسفكوا فيها الدماء واستباحوا النساء وارتكبوا كل أشكال وصنوف المحرمات والموبقات فيها.

كان “ابن تيمية” آنذاك صبيًّا في السابعة من عمره، فتم تهريبه ليقيم لدى جدّته “تيمية” في الشام، وهي التي ربّته وتعهّدته بالرعاية ومنها حمل اسمه وكنيته التي اشتهر بها فيما بعد.

الحادثة أثرت على نفسية ابن تيمية وجعلته متشدّدًا في آرائه وفتاويه، ومتطرّفًا في فكره وانحيازاته. كما أن طبيعة الظرف والفترة التي عاشها ابن تيمية ساهمت في تعمية وتضبيب الأمور، وأدخلت الوطني في السياسي، فأصبح الخروج على إجماع المجتمع المحيط – بمعناه الوطني والسياسي الخلافي الطبيعي – خروجًا على الدين والعقيدة بوصفهما غاية المآل ومناط الصيانة العليا للمجتمع ومصالحه واستمرار بقائه.

اقرأ أيضا: حينما رفس القوم ابن تيمية لتجسيده “جلوس” الله

أي أن الخلاف العادي والتراوح بين مساحة عقلية ومنطقية من الآراء والأفكار في القضايا الكلية والخلافية، أصبح خروجًا على الدولة “الوطن”؛ وبالتالي أصبح تهديدًا لفكرة الوطن وبقائه. بناء على ذلك، فهو يصير تهديدا للدين الذي لن يعيش ويستمر دون مؤمنين.

كل هذا ساهم في اختزال العلاقة في التصور الأخير بكونها معادلة أحادية مسطّحة، يمكن تبسيطها بالقول إن كل من يخرج على الإجماع الفكري والفقهي فهو خارج على الدين ويجب التخلّص منه ومن شروره قبل أن يقوّض دعائم العقيدة ومقتضيات السلم والأمان المجتمعيين.

في هذا السياق، سُئل ابن تيمية، عن ما إذا كانت “ماردين” دار حرب أم دار سلام، وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا، وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر، وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو بماله، فهل يأثم في ذلك، وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبّه به أم لا؟.

على هذا السؤال الهيكلي المركّب، أجاب ابن تيمية وأفتى ودبّج فتواه الشهيرة التي عُرفت واشتهرت باسم ” فتوى ماردين”.

فى الفقرة السابعة من الكتاب نفسه، يقول ابن تيمية: “من قال “وكلم الله موسى تكليمًا” يُستتاب، وإلا قتل”.

نصّ فتوى ماردين لابن تيمية هو التالي: “دماء المسلمين وأموالهم محرّمة حيث كانوا، في ‏‏ماردين‏ أو غيرها، وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرّمة، سواء كانوا أهل ‏ماردين، أو غيرهم. والمقيم بها، إن كان عاجزًا عن إقامة دينه، وجبت الهجرة عليه‏،‏ وإلا استحبّت ولم تجب، ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرّمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع من ذلك بأي طريق أمكنهم، من تغيُّب، أو تعريض، أو مصانعة،‏ فإذا لم يمكن إلا بالهجرة، تعيّنت”.

تُعدّ هذه الفتوى تحديدًا هي المنهج الأكثر عمقًا وتأثيرًا في أفكار هذا القطاع من المسلمين، والذي يطبقه القطاع الأكبر من التكفيريين في العراق والشام حاليًا، وعلى رأسهم عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”.

اقرأ أيضا: التكفير والتطرف… من ابن تيمية إلى محمد بن عبد الوهاب وسيد قطب. أصل المأساة!

من خلال هذا المنهج، يستبيحون قتل المسلمين الموجودين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومات أو الأنظمة التي يرون أنها كافرة.

ضمن فتاوى ابن تيمية الخلافية والغريبة أيضًا، ما جاء في كتاب “فتاوى ابن تيمية”، في الصفحة رقم 102 من متن الكتاب، حيث يقول: “من لا يقول إن الله فوق سماواته على عرشه، وإنه إله واحد أحد، يُستتاب، وإلا قتل”؛ في إشارة منه إلى وجوب قتل غير المسلمين ممن يعتقدون غير ذلك.

“كل من يخرج على الإجماع الفكري والفقهي فهو خارج على الدين ويجب التخلّص منه ومن شروره قبل أن يقوّض دعائم العقيدة ومقتضيات السلم والأمان المجتمعيين”

فى الفقرة السابعة من الكتاب نفسه، يقول ابن تيمية: “من قال “وكلم الله موسى تكليمًا” يُستتاب، وإلا قتل”.

كما قال ابن تيمية في الجزء الثالث من كتاب “جامع المسائل لابن تيمية”، في الصفحة رقم 375 من الكتاب: “إن من يحتفل بعيد النصارى تقرُّبًا إلى الله يستتاب وإلا قتل”، ويُضاف إلى هذا الرأي ما سنّه ابن تيمية تحت ما عُرف باسم “قاعدة الولاء والبراء”، والتي عرفها على أنها: “الولاء هو أن توالي المسلم ولو أساء إليك، والبراء هو أن تبرأ من غير المسلم ولو أحسن إليك”.

وفق هذه العقلية، بمنطلقاتها الفكرية والفقهية، أنتج ابن تيمية كمًّا كبيرًا من الأفكار المشتبكة اشتباكًا معوّجًا مع إمكانات النص وطاقاته التعبيرية والبلاغية، سواء كان من القرآن أو من صحيح السنة، كما أنتج كمًّا كبيرًا من التلاميذ والأشياع والمناصرين، ومن يتبنّون هذه الأفكار ويقيمونها مقام النص والفريضة والسنة، ليتواصل مدّ العقلية “الماردينية” الممهورة بخاتم ومنطلق ابن تيمية.

تتصاعد هذه العقلية مع الأزمان والعصور والتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي مرّت بها المجتمعات العربية والإسلامية في فترات مجدها وانحسارها المختلفة، وتنتج في كل عصر اسمًا أو أكثر ممن يبشّرون بالعنف والتشدّد في قراءة النص وكتابته وقيادته والتحرك تحت لوائه؛ حتى وصلنا إلى سيد قطب في منتصف القرن العشرين، والذي قال بفكرة الحاكمية وبتكفير المجتمع الذي لا يؤمن بها ولا يعمل وفق مقتضياتها، وبتسويغ وقبول الخروج عليه بالسلاح، حاكمًا ومحكومين؛ لنعبر منه إلى أعضاء الجماعة الإسلامية الذين قتلوا الرئيس السادات وتبنّوا عشرات العمليات الإرهابية ضد عناصر تابعة للأجهزة الأمنية المصرية، وضد مواطنين مدنيين، وسائحين من جنسيات عدّة.

بنظرة بانورامية واسعة، من ابن تيمية وابن القيّم – في جانب من أفكاره، تواصلاً وصعودًا مع الزمن والمراحل التاريخية والفكرية والفقهية، وصولاً إلى سيد قطب وناجح إبراهيم وعاصم عبد الماجد وعناصر جماعة الإخوان وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري ومحمد الظواهري وأبي مصعب الزرقاوي وأبي بكر البغدادي، وعشرات غيرهم من المتشدّدين وأرباب العنف وأنبياء الدم والقتل على امتداد السنوات واختلاف المراحل وتبدّلها، سنجد أننا نقف في مرحلة مفصلية طوال الوقت، منذ بدء التنزيل وحتى اكتمال النص، منذ الفتنة الكبرى واقتتال الصحابة، وحتى جرائم داعش ورفض الأزهر وكثيرين من الفقهاء والعاملين في مضمار الشريعة والفكر الإسلاميين إعلان خطأ هذا التنظيم، أو تكفير عناصره التي تستبيح الدماء والأعراض جهارًا وفي عرض الطريق.

اقرأ أيضا: عسكرة الرّعب: من الجهاز الخاصّ إلى الجماعة المقاتلة. تعاليم سيد قطب

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *