عمر بن أعمارة يكتب: الله بين حدود العقل ورحابة القلب
كيف للمناجاة أن تتم تحت الطلب وبالشكل المنمط وبالعبارات المختارة من طرف مخبري الضمائر؟ ما معنى الدعاء المستجاب أو المستحب مع تحديد الزمان والحدث وربما المكان أيضا؟ كيف للأمل أن يحضرنا في ظل الخطوط الحمراء المسطرة من قبل حراس العقائد؟ كيف للرجاء أن يمر تحت ضجيج وتشويش الوسطاء وعلى مصفاة رجال الدين وتحت توقيع وترخيص الفقهاء؟
… أوَليس هو كالدمعة التي تسيل من القلب لحظة فرح أو ألم؟
رأيت ربي بعين قلبي… فقلت من أنت؟ قال أنت / فليس للأين منك أين…وليس أين بحيث أنت. (1)
“إن أعظم احتقار يمكن توجيهه للدين، هو محاولة زرعه في منطقة أخرى لا تنتمي إلى جوهره، وجعله في خدمتها، فالدين ليس بحاجة للاستدلالات المنطقية، ولكنه في الوقت ذاته لا يدعو لإقصاء المضامين العقلية” (2)
“ينبغي على الجميع احترام أي شكل من الإيمان المغاير لإيماننا. وذلك أن جوهر الإيمان البشري واحد: إنه التعلق بأفق رجاء قادر على مساعدة البشري على تحمل ما يفوق طبيعته المتناهية، لا غير. ومن يحق له أن ينكر على أحدهم حقه في تقنية الرجاء التي يرضاها لنفسه؟” (3)
في واقعة تنسب إلى الفخر الرازي مع امرأة عجوز، أنه ذات يوم، مرّ في أحد الشوارع، وكان رفقة حشد من تلاميذه، وكلما نطق بكلمة ما إلا وعملوا على تدوينها، فانتبهت امرأة عجوز إلى الأمر، فتعجبت ونادت على واحد من مرافقيه فسألته عن الرجل: من يكون؟ فاستغرب المريد متسائلا: “ألا تعرفينه؟ وأجابها: إنه الإمام الفخر الرازي الذي يملك ألف دليل ودليل على وجود الله”. صاحت العجوز: “يا بني لو لم يكن عنده ألف شك وشك ما احتاج لألف دليل ودليل، “أفي الله من شك؟”. فلما بلغ الأمر مسامع الإمام الفخر الرازي قال: “اللهم إيمانا كإيمان العجائز”.
من لم يجد إلهه مستوطنا قلبه، فلا داعي ليبحث عنه في عقله تحت أي ذريعة، مهما تمنطق أو ادعى من الموضوعية والنسقية والعلم. إن نحت أو بناء إله ما داخل مساحة العقل السببي أو العلة الأولى، أو تحت التفكير في كمالية الكون أو الإيقاع المتراتب والمسترسل لقوانين الوجود التي تتكرر بمنتهى الدقة والنظام، ليس في عمق الأمر سوى الدعوة الصريحة لآلهة الفلاسفة والعلماء، وكل دعوة إلى هذا النمط من التألّه، هي إعلان مكشوف عن إقصاء مقصود وتشطيب على إيمان الأطفال والبسطاء من العامة وأيضا المتصوفة.
الإيمان حدث روحي أو لا يكون، وهو من الأمور المعقدة التي تدخل في خانة ما هو فردي ذاتي، لذلك يبقى مسألة شخصية تهم الفرد لوحده لا غيره، فالإيمان لا يخضع للمنطق والبرهنة والسببية والتبرير، بل هو نداء إلى القلب في حضرة الصدق والحرية.
وغالبا ما يمارس هذا الشكل من الإقناع في إطار البحث عن تأكيد النتائج والخلاصات المقررة مسبقا، أو ما يسمى عند المناطقة بـ”المصادرة على المطلوب”، إذ تستدعى جميع الوسائل، وتباح كل المناهج، وتشرعن كل التأويلات من أجل معركة تثبيت الرأي والمعتقد، هكذا تمارس الانتهازية المعرفية عبر الانتقائية والاختزال ثم التحريف والافتراء.
كيف لإله أن يأتينا من الخارج، ويُفرض علينا فرضا وبشكل تعسفي تحت أي مبرر أو أي طلب تقوى أو توبة، ويلزمنا على ما يجب علينا القيام به وما يجب علينا تجنبه، تارة تحت الاستدراج والإغراء بنعيم الجنة، وتارة تحت التهديد والوعيد بجحيم جهنم؟. فإما أن يأتينا من الداخل، عن صدق وحرية ومحبة أو لا يكون. كيف للمناجاة أن تتم تحت الطلب وبالشكل المنمط وبالعبارات المختارة من طرف مخبري الضمائر؟ ما معنى الدعاء المستجاب أو المستحب مع تحديد الزمان والحدث وربما المكان أيضا؟ كيف للأمل أن يحضرنا في ظل الخطوط الحمراء المسطرة من قبل حراس العقائد؟ كيف للرجاء أن يمر تحت ضجيج وتشويش الوسطاء وعلى مصفاة رجال الدين وتحت توقيع وترخيص الفقهاء، أوَليس هو كالدمعة التي تسيل من القلب لحظة فرح أو ألم؟
اقرأ أيضا: هل ستنهار الأخلاق من دون الإيمان والدين؟ 2/1
في إلهي: ألمي وأملي، قوتي وضعفي، علتي وسقمي، فيه محبتي، سعادتي، أوهامي النبيلة، نسبيتي (من النسبية) وإطلاقيتي (من المطلق)، نهايتي ولا نهايتي، فنائي وخلودي. إلهي هو حريتي ومحبتي بكل بساطة.
إن الإيمان حدث روحي أو لا يكون، وهو من الأمور المعقدة التي تدخل في خانة ما هو فردي ذاتي، لذلك يبقى مسألة شخصية تهم الفرد لوحده لا غيره، فالإيمان لا يخضع للمنطق والبرهنة والسببية والتبرير، بل هو نداء إلى القلب في حضرة الصدق والحرية.
كيف لإله أن يأتينا من الخارج، ويُفرض علينا فرضا وبشكل تعسفي تحت أي مبرر أو أي طلب تقوى أو توبة، ويلزمنا على ما يجب علينا القيام به وما يجب علينا تجنبه، تارة تحت الاستدراج والإغراء بنعيم الجنة، وتارة تحت التهديد والوعيد بجحيم جهنم؟. فإما أن يأتينا من الداخل، عن صدق وحرية ومحبة أو لا يكون.
في كتاب القرآن الكريم نجد الآية: “ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا…” (4). إذن، الإيمان هو استجابة لنداء، وليس كل النداءات ولا أي نداء كان. لقد قيل قديما: “الإيمان فعل القلب”، وأيضا الآية الكريمة تقول: “…مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ …” (5). الإيمان هو ما يأتي الفرد من أعماق بواطنه، هو ذلك الجرس الذي يرن في الداخل، هو تلك السيمفونية الخاصة التي يعزفها الشخص المؤمن بشكل منفرد ومستقل، خارج أي إغراء أو إكراه أو انقياد أو مراقبة أو تقييم.
لذلك، إما أن يكون عن صدق وإرادة وحرية وطواعية وعن حب، أو لا يكون. ذات زمان قال الفيلسوف الدانمركي كيركغورد : “إن الإنسان يعثر على حريته الحقيقية في ظلمات الإيمان”. وأضاف قائلا: “الإيمان لا يكون له معنى إن لم يكن بذلا خالصا من الإنسان في حقيقته الفردية لإله شخصي محب وعال” (6).
إن تبرير الإيمان، أو الدفاع عنه بالحجج العقلية، وإيجاد مسوغات من البراهين العلمية والسببية له، هو ضرب من حشر القلب في زاوية مغلقة، هو الزج به في صقيع وجفاف المنطق، وخارج خصوبة وطراوة الجوارح والمؤانسة والرجاء والمناجاة والمحبة، فالحب أرحب وأوسع من أي قارّة مخصصة للعلوم وللمنطق.
اقرأ أيضا: من اليمن، حسين الوادعي يكتب: شبابنا بين الإلحاد والإيمان
إن أكسجين الإيمان هو الأمل وليس المنطق والبرهان. الله ليس في حاجة إلى من يدخل معه في جدال عن نفسه وماهيته تحت أي معرفة كانت، أي على إثبات وجوده من عدمه وعلى طبيعته. الله هو ذات نفسه وموضوع محبة. إذن، فمقام الله هو أن يُحبّ لا غير، مع غض الطرف عن كل أشكال الوجود وغلق كل الأقواس. وهو كما قال يوحنا: “الله مَحبّة”، أو بتعبير ابن عربي:” لولا الجود ما ظهر الوجود”. فحينما نتقابل مع الله ونكون في حضرته، يحضر القلب مجردا من كل الانتماءات إلا منه. “قلت: كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك وتعال إليّ”. هكذا تساءل وهكذا أجاب ذات يوم أبا يزيد البسطامي. وحينما نتقابل مع التاريخ والمادة والعلم، يحضر العقل محررا من كل العقائد والنتائج المسبقة وهو متسلح بأحدث المناهج العلمية. يقول أحد العارفين المسيحيين: ” ثمة دائما بين الإنسان والله سحبا من اللاعلم ولن تنقشع هذه السحب إطلاقا ولن يعرف الإنسان يوما ما هو الله ومن هو الله. السبيل الوحيد لنجاة الإنسان هو السير بين سحب اللاعلم (برأس سهم الحب الأعمى الحاد جدا)” (7).
الإيمان هو ما يأتي الفرد من أعماق بواطنه، هو ذلك الجرس الذي يرن في الداخل، هو تلك السيمفونية الخاصة التي يعزفها الشخص المؤمن بشكل منفرد ومستقل، خارج أي إغراء أو إكراه أو انقياد أو مراقبة أو تقييم. لذلك، إما أن يكون عن صدق وإرادة وحرية وطواعية وعن حب، أو لا يكون.
الإيمان يقع في منطقة منزوعة العقل، لذلك أي محاولة لإظهار الأخطاء التاريخية أو العلمية أو تبريره بالحجج المنطقية والمعطيات العلمية، هو ضرب من الإقامة في ضيق وتخوم المختبرات لا في رحاب القلب والروحانيات.
العلم مجاله: المادة والملاحظة والتجربة والمختبر والتراكم والنسبية، ويمارس على ضوء المناهج الممكنة، وبالتالي هو معرض للأخطاء وللنقد وللتعديل وللحذف والإضافة. أما الإيمان، فمجاله القلب والوجدان والمحبة والغيب. في كتاب القرآن وردت الآية: “الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون” (8).
اقرأ أيضا: توريث جاه النبوة: سياسة للناس، توسيع للنفوذ ومراكمة للثروات! 3/2
وفي هذا المضمار، قال الفيلسوف الدانماركي كيركغورد: “لا يمكن أن يتوفر الإيمان من دون توجس، فالإيمان بتحديد دقيق يتمثل بالتناقض بين اندفاع الروح وغياب اليقين الموضوعي. لو كان في وسعي أن أدرك الله على نحو موضوعي حسّي، فحينها لن أكون مؤمنا. ولكن، من المفترض أن أتحلى بالإيمان حين أكون عاجزا عن ذلك بالتحديد” (9).
الهـوامش:
(1) الحلاج – كتاب الطواسين
(2) فتحي المسكيني ــ مقال تحت عنوان: الإساءة إلى الذات الإلهية.
(3) شلاير ماخرــ كتاب: “عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين”
(4) سورة آل عمران الآية 193
(5) سورة المائدة الآية 41
(6) مقال تحت عنوان: فلسفة الدين عند كيركغورد ــ حسن يوسف – موسوعة فلسفة الدين 1 تمهيد لدراسة فلسفة الدين. إعداد وتحرير د عبد الجبار الرفاعي.
(7) حوار مع محمد مجتهد شبستري تحت عنوان: الإيمان والتجارب الدينية- موسوعة فلسفة الدين- 2 الإيمان والتجربة الدينية. إعداد وتحرير د ـ عبد الجبار الرفاعي.
(8) سورة البقرة الآية 3
(9) مقال تحت عنوان: العقل والإيمان دراسة مقارنة بين ابن عربي وكيركغورد – محسن جوادي- ترجمة سرمد الطائي – موسوعة فلسفة الدين-1 تمهيد لدراسة فلسفة الدين إعداد وتحرير د عبد الجبار الرفاعي.
اروع ما قارات واتفق جدا وهاذا هو تفكيري تلقاىيا دون بحث او دراسة خاصة ..ولا اجد ما اضيفه سوى تهنئتك على هاذا الاسانتاج الراىع