“الأصولية” في المسيحية: حين تنتصب الديمقراطية عائقا! (الجزء الرابع) - Marayana - مرايانا
×
×

“الأصولية” في المسيحية: حين تنتصب الديمقراطية عائقا! (الجزء الرابع)

في أواخر السبعينيات، أدرك الأصوليون في الولايات المتحدة أن عليهم أن يكونوا نشطاء سياسيا بدلا من الانسحاب من المجتمع، لكن السياسة الحديثة تعني تقديم التنازلات والصراع على السلطة يقتضي المقايضة والتسليم الجزئي للأعداء، وهذا ما لم يستقيم مع رؤية دينية ترى أن بعض المبادئ لا تنتهك حرمتها، ومن ثم، يستحيل التفاوض بشأنها.

في وقت كان فيه اليهود، كما رأينا في الجزء الثالث، يحاولون مواجهة عواقب طردهم من إسبانيا، كان المسيحيون في الغرب قد بدؤوا السير في طريق انتهى بعيدا عن ثوابت اليقين ومقدسات العالم القديم.

نتابع إذن هذا الملف في جزئه الرابع، مع الأصولية كما تطورت في المسيحية، دائما، بالاعتماد على كتاب الباحثة البريطانية في علم الأديان المقارن، كارين أرمسترونغ، “معارك في سبيل الإله”.

ما إن حل القرن السادس عشر حتى كانت مجموعة من العوامل قد تضافرت في أوروبا أولا ثم في المستعمرات الأمريكية ثانيا، لتغير من أساليب تفكير الناس وإحساسهم بالدنيا.

حدث ذلك التغيير تدريجيا، بل ودون أن يلحظه أحد في حالات كثيرة، فكانت الاختراعات والابتكارات تظهر في نفس الوقت في ميادين كثيرة ومختلفة.

كانت جميع هذه المكتشفات تتميز بالروح العلمية البراغماتية التي عملت على التقويض البطيء لمنطق الروح القديم، فهيأت أعدادا متزايدة من الناس لتقبل أفكار جديدة عن الرب والدين والدولة والفرد والمجتمع.

لم يكن يبدو أن لهذه المكتشفات دور حاسم حينذاك، لكن آثارها التراكمية هي التي حسمت القضية. بعبارة أخرى، لم يكن أي من هذه التطورات حاسما في ذاته، لكنها مجتمعة كانت ذات تأثير ثوري.

حين أتى العالم البولندي كوبرنيكوس، أعطى ضربة قاصمة للفكرة الأسطورية القديمة التي تقول إن الأرض هي مركز الكون، فأحدث ثورة جعلت من المستحيل أن يثق البشر في مدركاتهم الحسية بالأسلوب القديم.

عندما أدى ترشيد المجتمع وأخذه بأسباب التكنولوجيا إلى الانقلاب الصناعي في القرن التاسع عشر، كانت ثقة الغربيين قد ازدادت في استمرار التقدم… ازدادت إلى الحد الذي جعلهم لا يلتفتون إلى الماضي طلبا للإلهام، بل صاروا يرون الحياة في صورة تقدم نحو إنجازات أكبر وأعظم في المستقبل.

اقرأ أيضا: على هامش الحادث الإرهابي لنيوزيلاندا، مرايانا تستحضر حكاية داعش المسيحية

تمكن العمال من القراءة والكتابة، وأدرجت الجماعات التي كانت معزولة ومهمشة في تيار الثقافة الرئيسي، ما يعني زيادة مطالبتهم بمشاركة أكبر في عمليات اتخاذ القرار في مجتمعاتهم، وبالتالي… ضرورة زيادة الطابع الديمقراطي للحكم.

لكن حركات الإصلاح في مطلع الفترة الحديثة، كانت تدل على أن الأوروبيين كانوا ما يزالون ينتمون إلى الروح المحافظة، على الرغم من أن عملية التحديث كانت قد قطعت شوطا كبيرا قبل ذلك.

كان كل من المصلحين، مارتن لوثر وجون كالفن وهالدريتش زفنجلي، ينظر إلى الخلف باسم العودة إلى المنبع؛ أي إلى المصادر الأولى للتقاليد المسيحية. لكن على الرغم من عمق الدافع الديني للإصلاح، فإنه كان من عوامل التحول العلماني.

ما كان يدعو إليه هؤلاء، لم يكن ليتحقق لو لم تكن الطباعة قد اخترعت، فأصبح من الممكن لكل مسيحي أن يمتلك نسخة من الكتاب المقدس، وإن لم تكن القراءة والكتابة قد انتشرتا آنذاك، فاستطاع الكثيرون قراءته دون وساطة.

ثم… حين أتى العالم البولندي كوبرنيكوس، أعطى ضربة قاصمة للفكرة الأسطورية القديمة التي تقول إن الأرض هي مركز الكون، فأحدث ثورة جعلت من المستحيل أن يثق البشر في مدركاتهم الحسية بالأسلوب القديم.

اقرأ أيضا: على هامش الحادث الإرهابي لنيوزيلاندا، مرايانا تستحضر جرائم إرهابية أخرى… باسم الرب

ومع ذلك، من المفارقات العجيبة أنه في زمن ظهر فيه كانط، انفجر الهوس الديني ممثلا في ما سمي بـ”جنون الساحرات”… هكذا، احتاج الغرب لأكثر من قرنين من العنف، ليشهد نشأة نظام اجتماعي أكثر عدالة وتسامحا.

العقلانية العلمية كمصدر لما حققه الغرب من قوة ونجاح، قوضت منطق الروح… العقل وحده لم يكن ليتصدى للأسئلة النهائية، حتى إن عالم النفس فرويد، اكتشف بعد ذلك أنه قد صار للبشر دافع إلى الموت لا يقل عن الرغبة الجنسية.

البروتستانتية المحافظة كمثال للأصولية في الولايات المتحدة

مع مطلع القرن العشرين، شعر المحافظون بضرورة مجابهة الخطر الليبرالي، ثم في عام 1910، أصدرت جماعة المشيخانيين (الأسقفيين) قائمة تعاليم خمسة رأوا أنها أساسية، وهي: عصمة الكتاب المقدس، الميلاد العذري للمسيح، تكفير المسيح عن الخطايا البشرية على الصليب، بعثه الجسدي، الحقيقة الموضوعية لمعجزاته.

بعد ذلك، قام المليونيران ليمان وميلتون ستيورات، اللذان أسسا كلية لوس أنجليس لمجابهة “النقد الأعلى للإنجيل” عام 1911، بتمويل مشروع لتعليم المؤمنين المبادئ المركزية للعقيدة.

على خلاف الإسلاميين، كان عدو البروتستانت الأمريكيين داخلي. على مر السنين، أصبح التوجه الإنساني العلماني لفظا فضفاضا، أو “سلة” يلقي فيها الأصوليون بأية قيمة أو معتقد لا يجد منهم القبول.

ثم أصدرا في غضون ذلك سلسلة من اثني عشر كتيبا تحت عنوان “أصوليات”، وتم توزيع حوالي 3 ملايين نسخة من كل كتيب. هذا المشروع اكتسب فيما بعد أهميته الرمزية، حيث سينظر إليه الأصوليون على أنه البذرة الأولى لحركتهم.

اقرأ أيضا: التسامح: مفهوم ينخره النفاق؟ 2\3

بكل تأكيد، أثارت الحربان العالميتان بعض الشكوك فيما بلغه الغرب الحداثي، لكن سنوات الستينيات كانت فارقة أكثر باندلاع ثورة جنسية ومنح الحقوق لسود البشرة والنساء.

على خلاف الإسلاميين، كان عدو البروتستانت الأمريكيين داخلي. على مر السنين، أصبح التوجه الإنساني العلماني لفظا فضفاضا، أو “سلة” يلقي فيها الأصوليون بأية قيمة أو معتقد لا يجد منهم القبول.

هكذا، دأب الأصوليون لمدة أربعين عاما على خلق عالمهم المنفصل الرافض لتوجهات العلمانيين والمسيحيين الليبرالية الحداثية.

لكن… في الولايات المتحدة، كانت الديمقراطية مؤسسة تأسيسا راسخا، وكان باستطاعتهم الجهر بآرائهم بحرية دون خشية القمع، وأيضا استعمال المؤسسات الديمقراطية من أجل دعم قضيتهم.

في أواخر السبعينيات، أدرك الأصوليون أن عليهم أن يكونوا نشطاء سياسيا بدلا من الانسحاب من المجتمع، كما كانت سياستهم قبل ذلك، وشعروا أن لديهم فرصة التأثير ووضع أمريكا على المسار القويم.

أصبح من الواضح أنه بإمكانهم تعبئة جماهير من الناخبين الإنجيليين بشأن قضايا مثل قيم الأسرة، الإجهاض، والتعليم الديني.

اقرأ أيضا: من اليمن وسام باسندوة تكتب: لماذا يكرهوننا؟

لكن السياسة الحديثة تعني تقديم التنازلات؛ فلا يمكن للسياسات والقرارات المطلقة النجاح في سياق ديمقراطي، حيث يقتضي الصراع على السلطة المقايضة والتسليم الجزئي للأعداء… لا يستقيم هذا التوافق مع رؤية دينية ترى أن بعض المبادئ لا تنتهك حرمتها، ومن ثم، يستحيل التفاوض بشأنها.

هكذا، كانت بعض الحلول التي دُفع إليها الأصوليون، تعني هزيمة الدين نفسه.

ومع ذلك، بدا أن الأصوليين الأمريكيين على درجة أكبر من التحكم بالنفس وإطاعة القانون؛ ذلك أنهم لم يقوموا باغتيال رؤساء جمهوريتهم ولم يقودوا ثورات أو يحتفظوا برهائن.

في الجزء الخامس والأخير نتابع الملف مع الأصولية في الإسلام.

لقراءة الجزء الأول: “الأصولية” في الديانات الثلاث: مدخل (الجزء الأول)

لقراءة الجزء الثاني: “الأصولية” في الديانات الثلاث: ما بين المنطق الروحي والمنطق العقلاني… (الجزء الثاني)

لقراءة الجزء الثالث: “الأصولية” في اليهودية: بين لعنة المنفى وغواية الأرض (الجزء الثالث)

لقراءة الجزء الخامس: “الأصولية” في الإسلام: هل فاجأ الغرب المجتمعات الإسلامية بالحداثة وأخطأ تقديره للوقت الذي تحتاجه؟ (الجزء الخامس والأخير)

تعليقات

  1. ZEGHLI Zakaria

    أعتقد بأن العيب يكمن في تفسير الإنسان للعقيدة الصحيحة . وليس في كونها عقيدة صحيحة إلا إذا كانت قد حرفت أو غيرت . فهذا شأن من تخلى عن الوضوح واختار السير في ظلال الوهم ليهرب من الواقع.

اترك رداً على ZEGHLI Zakaria إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *