امرأة من ذهب: عن الحب كصداقة أو… عندما قالت سوزان لطه حسين لا شك أننا لا نكذب على الله! - Marayana - مرايانا
×
×

امرأة من ذهب: عن الحب كصداقة أو… عندما قالت سوزان لطه حسين لا شك أننا لا نكذب على الله!

البوح. الرفض. الارتباك ثم القبول.
وحده الحب يملك القدرة على جعل المرء يرفض بحسم قبل أن ينقلب على نفسه بحسم أيضا. يتراجع دون أي إحساس بالحرج من قول الشيء وضده. صرخة رفض سوزان لحب طه حسين هي نفسها التي ستتحول بعد زمن قصير إلى صرخة في وجه أسرتها وهي تقول لهم:
“ـ إنني أريد الزواج من هذا الشاب!” (…).

1 ـ سوزان بريسّو هي السيدة الفرنسية المسيحية التي اختارت أن تكون زوجة ورفيقة درب رجل مسلم عربي أعمى يسمى طه حسين. كيف نشأ حب خارق بين رجل وامرأة من ديانتين مختلفتين، وعرقين مختلفين، وجنسيتين مختلفتين ليتوج بزواج عمّر 55 عاما؟ لعله نوع الأسئلة التي تبدو بليدة متى حشر الغريب أنفه في سر علاقة بين امرأة ورجل يقعان في حب بعضهما؛ إذ متى كان للحب تفسير منطقي أو غير منطقي؟ ألم يكن الحب دائما هكذا، يحتل المساحات الغامضة بين كائنين ليسا بالضرورة متشابهين؟ يملي نواميسه خارج الأعراف ومتطلبات العقل أو الدين أو الأخلاق. يصنع حقيقته هو. وهل من قبيل الصدفة أن يكون هذا الفوضوي الثائر المسمى حبا هو من يعطي معنى لحياة البشر؟ (…).

2 ـ تقول سوزان بريسّو عن بدايات علاقتها بطه حسين في كتابها “معك“: “أول مرة التقينا فيها، كانت في 12 مايو 1915 في مونبلييه (ومنذ زواجنا كنا نحتفظ لهذا اليوم بوضع خاص). لم يكن ثمة شيء في ذلك اليوم ينبئني بأن مصيري كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمي التي كانت بصحبتي أن تتصور أمرا مماثلا. كنت على شيء من الحيرة؛ إذ لم يسبق لي في حياتي أن كلمت أعمى. لقد عدت إليه أزوره بين الحين والآخر في غرفته التي كانت غرفة طالب جامعي. كنا نتحدث وكنت أقرأ له بعض الفصول من كتاب فرنسي. ولعل القدر كان قد أصدر قراره بالفعل، فقد كان هناك أعمى آخر، هو الأستاذ الإيطالي الذي كان يدرسه اللغة اللاتينية، قد أدرك ذلك وقال له:

ـ سيدي، هذه الفتاة ستكون زوجتك”.

تتذكر سوزان لحظة أول بوح كاشفها فيه طه حسين بحقيقة مشاعره فتقول:

“وذات يوم، يقول لي:

ـ اغفري لي، لا بد من أن أقول لك ذلك؛ فأنا أحبك.

وصرخت، وقد أذهلتني المفاجأة، بفظاظة:

ـ ولكني لا أحبك.

كنت أعني الحب بين الرجل والمرأة ولا شك. فقال بحزن:

ـ آه، إنني أعرف ذلك جيدا، وأعرف جيدا كذلك أنه مستحيل”.

البوح. الرفض. الارتباك ثم القبول. وحده الحب يملك القدرة على جعل المرء يرفض بحسم قبل أن ينقلب على نفسه بحسم أيضا. يتراجع دون أي إحساس بالحرج من قول الشيء وضده. صرخة رفض سوزان لحب طه حسين هي نفسها التي ستتحول بعد زمن قصير إلى صرخة في وجه أسرتها وهي تقول لهم:

“ـ إنني أريد الزواج من هذا الشاب!” (…).

3 ـ مسلم ومسيحية. مصري وفرنسية. عربي الثقافة والانتماء الحضاري وأوروبية في ثقافتها وانتمائها. عرفها مسيحية وبقيت كذلك في رفقته كزوج مسلم لا يثنيها عن دينها ولا يحاول. إنه الحب والحياة المشتركة في ظل الاحترام المتبادل لحرية العقيدة. أي سحر انطوت عليه هذه العلاقة التي استوعب طرفاها الاختلافَ الثقافيَ بينهما فانتصرا للجوهر الإنساني على حساب حواجز الدين والعرق والجسد؟ وهل كان طه حسين سينجح في تدبير أدوار (الزوج ـ الأب ـ الجامعي ـ الأكاديمي ـ الصحفي ـ الوزير ـ المناضل السياسي ـ المربّي ـ المبدع ـ أشهر مثقف عربي في القرن 20) لولا الرائعة سوزان التي جندت نفسها على مدى 55 سنة كي تسهر على راحته، تنظم مواعيده وعمله وطعامه وترعاه كأنه رضيع بين يديها؟ يقول ابنهما مؤنس في مذكراته: “كانت على الدوام إلى جانبه، راعية، مخلصة، محبة. كانت قد واسته وشجعته حين كانت الأمور تسوء (ويعلم الله كم كانت تسوء!) وشاركته بكل تواضع نجاحاته وانتصاراته. كانت قد ساعدته على التغلب على عاهته، على أن يصير ما كانه، على أن يتناول الطعام على موائد الملوك، على أن يتلقى ضروب الثناء والتكريم في أوروبا، وفي الشرق، وفي كل مكان. كانت حاضرة دوما حين كان بحاجة إليها، وقد قال هو نفسه إنه لولا زوجته لما كان شيئا (…).

4 ـ الصداقة. الحب. الزواج. أي هذه المقامات أرفع من غيرها؟ لما مات طه حسين، رفضت سوزان الانتقال للإقامة مع ابنها مؤنس في فرنسا. فضلت البقاء في مصر ما تبقى لها من عمر (عمرت 94 عاما) وقد دفنت في أرض مولد الرجل الذي قال لها يوما:

ـ لعل ما بيننا يفوق الحب؟

تفصح سوزان عن هذا المعنى نفسه بطريقتها الخاصة عندما تتحدث عن الصداقة كجوهر للحب الذي جمعها بطه حسين. تقول عن لحظة نزعه الأخير: “لم يكن أحد يعرف بعد بالذي حدث. كان الواحد منا قبل الآخر، مجهولا ومتوحدا، كما كنا في بداية طريقنا. وفي هذا التوحد الأخير، وسط هذه الألفة الحميمة القصوى، أخذت أحدثه وأقبل تلك الجبهة التي كثيرا ما أحببتها؛ تلك الجبهة التي كانت من النبل ومن الجمال بحيث لم يجترح فيها السن ولا الألم أي غضون، ولم تنجح أية صعوبة في تكديرها… جبهة كانت لا تزال تشع نورا، “يا صديقي، يا صديقي الحبيب“. وظللت كل صباح، حتى عندما لم نعد وحدنا، أقول وأكرر القول: “يا صديقي“؛ لأنه قبل كل شيء وبعد كل شيء وفوق كل شيء كان أفضل صديق لي، وكان ـ بالمعنى الذي أعطيه لهذه الكلمة ـ صديقي الوحيد.” (…).

5 ـ لطالما ردد طه حسين بسخرية مريرة أمام زوجته المنصتة:

ـ أية حماقة؟ هل يمكن أن يجعل من الأعمى قائد سفينة؟

سؤال استنكاري من جنس السؤال الذي قد يطرحه جاهل بأسرار الحب ببلادة بلهاء، فيقول:

ـ أية حماقة؟ هل يمكن لامرأة فرنسية مسيحية مبصرة أن تحب وتتزوج من رجل مسلم، عربي وأعمى؟

ما الصداقة التي تفوقت على الحب في هذه العلاقة الأسطورية بين كائنين من عالمين متعارضين؟ في كتابها “معك”، تخاطب سوزان رجل حياتها الذي غيبه الموت قائلة:

ـ “أفكر بهذا التوافق الخفي الذي وحدنا دوما في احترام كل منا لدين الآخر. لقد دهش البعض من ذلك، في حين فهم البعض الآخر؛ إذ رأى أن بوسعي أن أردد صلاتي على حين تستمع إلى القرآن في الغرفة المجاورة، ويصدفني اليوم أن أفتح المذياع لأستمع إلى آيات من القرآن عندما أبدأ في تسبيحي، بل إني لأسمعه على كل حال في أعماق نفسي. كنت غالبا ما تحدثني عن القرآن، وتردد لي البسملة التي كنت تحبها بوجه خاص. وكنت تقرأ التوراة، وكنت أتحدث عن يسوع. كنت تردد في كثير من الأحيان: “إننا لا نكذب على الله”. لقد قالها القديس بولس. لا شك أننا لا نكذب على الله وويل للمكذبين.” (…).

نقطة، عودة إلى السطر!

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *