من السويد فاروق سلوم يكتب: الشخصية الدينية النمطية، كما رسمتها الأحزاب والحركات الدينية
ينبثق الدين كقوة روحية من واقع اجتماعي واقتصادي وتاريخي مركب، ويتصل بالمؤسسات الاجتماعية ويؤثر فيها. قد يغترب الإنسان أمامه عندما تجرده المنظومة الدينية من طاقاته الإبداعية الحرة وتحدد مسيرته، حتى …
ينبثق الدين كقوة روحية من واقع اجتماعي واقتصادي وتاريخي مركب، ويتصل بالمؤسسات الاجتماعية ويؤثر فيها. قد يغترب الإنسان أمامه عندما تجرده المنظومة الدينية من طاقاته الإبداعية الحرة وتحدد مسيرته، حتى يُصبح قوة مسيطرة ومضادة تزيد الإنسان استلابا واغترابا، كلما جردته من اختياراته الحرة وقراراته وميوله واتجاهاته في الحياة عموما.
لقد شهدت الديانات الإبراهيمية الثلاث انحسارا لتأثيراتها في الحياة العامة بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945، جراء توجهات اجتماعية وثقافية نحو التجديد في البلدان العربية والأسلامية؛ وتحول موضوع اختيار التدين أو الإيمان، في العقود الثلاثة اللاحقة، إلى نمط من الاختيار الذاتي والنخبوي وربما العائلي أو الاجتماعي المحدد.
إن دعاوى الدفاع عن المستضعفين والمظلومين والمهمشين وادعاءات تمثيلهم، استخدمت من قبل تلك الحركات والأحزاب، لرسم ملامح الشخصية النمطية المطلوبة في صورة محافظة وضيقة، معززة بخطاب محافظ تحرسه النصوص المكررة وعبارات التخويف من العقاب والجحيم وتحاصره قوائم التحليل التحريم.
أي أن الدعوة للتدين لم تكن دعوة بارزة في الشارع الاجتماعي، ولم يكن لها تأثير في المؤسسة والدولة والمجتمع، أمام متغيرات الصناعة والتقنيات والعمارة وطرز الحياة أمام الميل العام، يومئذٍ، لتحديث أنظمة الحياة والقوانين والمؤسسات الحاكمة في بنية المجتمعات والدول. ويمكن القول أن ذلك شكل تحييدا لتلك الديانات، أمام انتصار قوانين الحداثة والتجديد.
اقرأ لنفس الكاتب: أوهام الهجرة والاندماج. بداوة عربية في أرض المهجر
لكن الأمر شهد منعطفات كثيرة على مستوى الدول والمجتمعات، وذلك إثر الخيبة التي شكلتها الحداثة بعد منتصف السبعينات من القرن الماضي، ممثلة في عدم بلوغ المجتمع أهدافا تتعلق بإيجاد حلول للأزمات الاقتصادية والمالية والتشغيلية التي حملت وعودها تلك الحداثة. كما لعب اعتبار الحداثة دعوة مفتوحة لمزيد من الليبرالية والعلمانية والابتعاد عن الديانات وأماكن العبادات وطقوسها دورا في ذلك؛ فنشطت مواقف كنسية مسيحية في الغرب وأميركا وظهرت حركات يهودية محافظة وبرزت تنظيمات دينية إسلامية شكلت النظرة السلفية والمذهبية جزءا من جوهرها.
يبدو شكل الرجل المؤمن مرسوما بشكل نمطي، فهو حليق الشارب يطلق لحيته، كما السلف الصالح، أو يجعلها خفيفة ومرسومة كما عند حركات وأحزاب شرقية معروفة
تلك المرحلة، اتخذتها الحركات الإسلامية الدينية فرصة جديدة لتمتلك أحزابا وتشكيلات وحركة اجتماعية ودعوية ردمت الفجوة التي خلقتها حركة الحداثة والمدنية في الدول العربية والبلدان الإسلامية خلال فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي.
لقد تبلورت أحزاب دعوية مختلفة وتأسست إخوانيات و”جبهات” تنظيمية وإصلاحية استطاعت أن تطلق حركةً لفكر إيديولوجي ديني مختلف، يتبنى فكرة واحدة بطرق شتى هي “أسلمة الحداثة والمدنية” وليس “تحديث الدين الإسلامي”؛ كما اعتبرت كل دعاوى تحديث الخطاب الديني بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
جراء هذا التأسيس، انطلقت فكرة شمولية لرسم ملامح “الشخصية الدينية” ومظهرها العام. هذه الشخصية الدينية استمدت نمطيتها من رغبة الحركات والأحزاب في الالتزام بوصايا دينية تتعلق بالمظهر الموروث وبخطاب ديني يلتزم النصوص في التعبير عن جوهر الدعوات التنظيمية وثقافتها الأساسية. لذلك، يمكن النظر إلى مظاهر الدعاة كشكل مكرّس يرسم إطار تلك الشخصية.
لقد تبلورت أحزاب دعوية مختلفة وتأسست إخوانيات و”جبهات” تنظيمية وإصلاحية استطاعت أن تطلق حركةً لفكر إيديولوجي ديني مختلف، يتبنى فكرة واحدة بطرق شتى هي “أسلمة الحداثة والمدنية” وليس “تحديث الدين الإسلامي”
يبدو شكل الرجل المؤمن مرسوما بشكل نمطي، فهو حليق الشارب يطلق لحيته، كما السلف الصالح، أو يجعلها خفيفة ومرسومة كما عند حركات وأحزاب شرقية معروفة. الرجل المؤمن تميزه زبيبة غامقة اللون تعلو جبهته من أثر السجود او أي أثر آخر مصنوع؛ وهو يُعنى بارتداء ملابس قصيرة تقيه ملامسة القذارة والمخالطة والنجاسة، ويضع في أصبعين أو ثلاثة محابسا بفصوص مقروء عليها، تقيه من الحسد وتحقق المراد وتدفع عنه الوسوسة وتقربه إلى الناس.
أما صورة المرأة، فقد رسمت بشكل يحميه نقاب لايخطئهُ النظر، حيث تتميز بصورة تجسدها وتدعو إليها الأحاديث والخطب الكثيرة واليومية. الأخيرة اعتنت بإخفاء صورة المرأة لكي لا تظهر منها أية عورة، كونها هي أصلا عورة لابد من سترها وإخفائها.
حين استطاعت تلك الأحزاب الدينية بلوغ سدة الحكم، تعمدت القيادات الحزبية والسياسية في تلك الأحزاب أن تظهر بتلك الهيئة التي تميزها الزبيبة واللحية ومحابس الأصابع واللباس القصير وتحاشي ربطة العنق في حال ارتداء الزي المدني.
كما اعتنت الأحزاب الدينية بتكريس تلك الشخصية في الخطب والأحاديث وردود الأسئلة التي يطرحها المؤمنون حول كل شيء وأي شيء، كي تتحول تلك المواصفات إلى شكل نمطي شائع ومطلوب ومرسوم على ملامح أي رجل وأي امرأة في المجتمع؛ في حين يعد الظهور بعكس ذلك تشبها بالكفار وتقليدا لهم، وما تقليد الكافر إلا ضلالة أخرى .
حين استطاعت تلك الأحزاب الدينية بلوغ سدة الحكم كما في تجربة مصر، عبر جماعة “الإخوان المسلمين”، وتجربة العراق عبر “حزب الدعوة”، وتجربة “جبهة الإنقاذ الجزائرية” وتجارب أخرى معروفة، تعمدت القيادات الحزبية والسياسية في تلك الأحزاب أن تظهر في الاجتماعات العامة وجلسات مجالس الشعب والبرلمانات وعلى وسائل الإعلام، بتلك الهيئة التي تميزها الزبيبة واللحية ومحابس الأصابع واللباس القصير وتحاشي ربطة العنق في حال ارتداء الزي المدني.
اقرأ أيضا: حسين الوادعي ـ القاتلون باسم الله
لقد كان المراد من موجة الظهور السياسي و الإعلامي لتلك الشخصيات الحزبية، تكريس تلك الصورة باعتبارها الصورة النمطية المطلوبة لشخصية المتدين عموما في الحياة العامة، والمتدين المنتمي إلى تلك الأحزاب بشكل خاص.
لقد استطاعت مساجد الأحياء الهامشية في دول المنطقة التحولَ إلى مدارس بناء الشخصية النمطية تلك وبناء مضمونها وإحكام مظهرها
وأظن أن الكثير من العامة اللذين التزموا تلك الملامح، إنما التزموها خوفا ونفاقا وتقربا لسلطة تلك الأحزاب، وخوفا من التهميش والإهمال والتعويق، بينما يشكل الظهور بتلك الملامح امتيازا يميز شخصية المتدين عن سواه ويسهل أموره وييسر معاملاته.
أستطيع أن أرصد في مدن أوربا الكثير من المهاجرين شيبا وشبانا من النساء والرجال، بتلك المواصفات المظهرية باعتبارها تعويضا عن ضياع الهوية في المهجر، على غرار ما يجتهد الخطباء في التعبير عنه؛ وتكريسا لشخصية المهاجر المتدين كما يشجع عليه الدعاة في المساجد والملتقيات.
لقد استطاعت مساجد الأحياء الهامشية في دول المنطقة التحولَ إلى مدارس بناء الشخصية النمطية تلك وبناء مضمونها وإحكام مظهرها، وهي ذات المساجد التي قادت تلك الأحزاب والحركات إلى السلطة وإلى شاشات التلفاز ووسائل الاتصال، في غفلة من الزمن مرة وباسم الانتخابات مرة اخرى.
إن دعاوى الدفاع عن المستضعفين والمظلومين والمهمشين وادعاءات تمثيلهم، استخدمت نفسيا وإعلاميا وفكريا من قبل تلك الحركات والأحزاب، لرسم ملامح الشخصية النمطية المطلوبة في صورة محافظة وضيقة، معززة بخطاب محافظ تحرسه النصوص المكررة وعبارات التخويف من العقاب والجحيم، وتحاصره قوائم التحليل التحريم.
* فاروق سلوم كاتب وشاعر عراقي مقيم بالسويد