في ذكرى وفاتها: سيدة الحوارات التي واجهت وحش السطة… مليكة مالك
يلقبها البعض بـ”سيدة الحوارات”.
مليكة مالك إعلامية مغربية، حاولت أن تجعل من الشاشة محطة عبور نحو بناء مغرب جديد، مغرب الحوارات السياسية والفكرية البناءة، مغرب الانتقال الديمقراطي والمساواة.
مليكة مالك لم تعرف المهادنة ولا المحاباة في انتقاء ضيوفها أو في أسئلتها وإدراتها للنقاش، كما أتاحت لضيوفها فرص التعبير عن آرائهم دون رقابة أو توجيه.
في 8 من مارس 2016، وبينما الإنسانية تحتفل بيوم المرأة الأممي، خيم الموت بظلاله على الساحة الإعلامية المغربية، برحيل إحدى الإعلاميات اللواتي وسمن الإعلام المغربي في مرحلة من تاريخه.
يوم 8 مارس، استفاق المغاربة على خبر صادم، رحيل “سيدة الحوارات”، مليكة مالك.
كثيرون ممن عاصروا بدايات القناة الثانية، عرفوا البرامج الحوارية التي قدمتها مليكة مالك، والتي حاولت خلالها أن تطرح المشاكل التي كانت تشغل النخبة المغربية في الفترة الانتقالية مع مجيء حكومة التناوب.
رأت مليكة مالك النور بمدينة القنيطرة، في دجنبر سنة 1955.
حول اختيار اسم مليكة، تقول الإعلامية في أحد حوراتها مع مجلة “الإنسان الجديد”: “هو من اختيار الوالدين معا، ويحمل بين حروفه دلالة حب وشغف، للبرهان الرمزي عن ارتباطهما، كسائر المواطنين المغاربة، بالملكية، وبأب الوطنية الملك محمد الخامس، الذي كان وما يزال عزيزا على قلوب الجميع”.
في كنف أسرة وطنية متشبعة بمبادئ النضال والكفاح الوطني، وفي جو يسوده النقاش السياسي، ولدت مليكة مالك.
الأجواء السياسية والنضالية في هذا البيت، أثرت بشكل كبير على مليكة مالك، إذ بمجرد حصولها على شهادة الباكالوريا، توجهت نحو دراسة العلوم السياسية في كلية الحقوق بالرباط، لتُكمل تكوينها في نفس التخصص بكندا، رغبة منها في التفاعل الفكري مع تجارب دولية وفكرية مختلفة.
إلى جانب العلوم السياسية، تخصصت الإعلامية في دراسة الصحافة المكتوبة والمجال السمعي البصري، لتعود إلى المغرب سنة 1992، وكلها آمال في خدمة المغرب عبر الشاشة الإعلامية.
البداية: “وجه وحدث”
التحقت مليكة مالك بالقناة الثانية المغربية بعد عودتها من كندا سنة 1993، لتبدأ تجربة جديدة في المشهد الإعلامي المغربي، تمتح من عالم الفكر والسياسة، هو برنامج “وجه وحدث”.
شكل البرنامج حينها منارة متميزة للصوت الحر والنقدي في مرحلة سياسية واجتماعية صعبة، من خلال الجرأة في طرح الموضوعات واستيعاب المناخ السياسي، كما لم تعترف مليكة بالخطوط الحمراء.
أتاحت مليكة لضيوفها فرصة التعبير دون رقابة أو توجيه، بما يساعد على رفع الوعي العام، بعيدا عن لغة السياسي المحترف التي غالبا ما تتسم بكونها مغلفة بتطلعات مصلحية باحثة عن أصوات انتخابية.
حول هذه التجربة، قال المفكر محمد سبيلا: “لا يمكن نكران تميز هاته التجربة، التي تستمد رونقها وبهاءها من سياقها السياسي والثقافي الذي انبثقت فيه، فقد كانت هاته التجربة بمثابة بشائر نسائم عليلة أولى، للإطلالة من تحث الأرض خلال فترات القسوة السياسية، ولخروج المغرب البطيء والمتعثر من أتون سنوات الجمر. هي بالتأكيد تجربة متميزة ذات مكانة خاصة في تاريخ الإعلام المغربي المعاصر”.
لم تعرف مليكة مالك الانتقائية في اختيار ضيوفها، فقد مر على برنامجها الراحل محمد عابد الجابري والمؤرخ عبد الله العروي وغيرهما من الأقطاب الثقافية والسياسية.
تجربة سيكون مصيرها الإجهاض من دوائر السلطة داخل الدولة، التي لم تستوعب متغيرات المرحلة وضرورة التكيف مع المستجدات العالمية الجديدة.
سنة 1996، استضافت مليكة مالك، امحمد بوستة، الأمين العام لحزب الاستقلال آنذاك، إلى جانب حسن نجمي، الصحفي آنذاك ممثلا لجريدة “الاتحاد الاشتراكي”.
سأل حسن نجمي امحمد بوستة: “كيف توقعون ميثاق شرف مع إدريس البصري وهو رمز كل تزوير انتخابي في البلاد”؟
أصدر ادريس البصري أوامره بتوقيف البرنامج نهائيا، بل إنه واجه مليكة حين التقاها في مؤتمر لنقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل.
وفق حسن النجمي، في حوار له، فإن البصري هدد مليكة بمقاضاتها، باعتبار أنها لم توقف حسن نجمي حين ذكر البصري بالاسم، ولم تتدخل، ولم ترد على حسن نجمي، وتركته يتحدث دون مقاطعته مع ابتسامة علت محياها.
لم يذهب البصري إلى القضاء، لكنه أوقف البرنامج، وحكم على مليكة مالك بعطالة إجبارية.
انطلاقة ثانية… ولكن
عادت مليكة مالك إلى الشاشة عبر القناة الثانية ببرنامج مماثل… “في الواجهة” سنة 1998.
تعرض البرنامج للتوقف مجددا سنة 2003.
سبق للإعلامية أن عبرت عن سبب توقف البرنامج في إحدى حوراتها، حيث قالت: “بدأت القصة حينما تخلت القناة الثانية عن برنامج “في الواجهة” في ليلة بثه، بمجرد أنني طالبت بتجديد عقد عملي الذي انتهى في دجنبر، وبتعويضات شهري يناير وفبراير”.
مليكة مالك أضافت: “لم يكن بوسعي أن أعمل بدون عقد… القناة الثانية رفضت تعويضي عن شهر يناير لأنه على حد قولها “لم يتم بث برنامج في الواجهة” في الوقت الذي كانت فيه الحلقة جاهزة. وهي التي اختارت أن تعوضها بمباراة لكرة القدم”.
بذلك، تم إجهاض البرنامج للمرة الثانية، لتنتهي بذلك تجربة البرنامج الحواري الأكثر جرأة ونجاحا في تاريخ التلفزيون العمومي المغربي.
مليكة مالك حاولت، من خلال برنامجيها، المساهمة في التمهيد للحظة الانتقال الديمقراطي، مستضيفة بذلك لأول مرة معتقلين سياسيين وشخصيات مُنِعت من المرور في الإعلام العمومي، على غرار عدد من معتقلي تازمامارت.
الإعلامية عبرت على أن برنامجها ليس منبرا لإرسال الرسائل إلى الملك، وإنما منبر لبسط وجهات النظر أمام الجمهور من طرف الضيوف بتعدد مدارسهم واختياراتهم.
اشتغلت الراحلة من بعدُ في قناة “الحرة” ببرنامج جديد يحمل اسم “البعد الآخر”.
اختارت مليكة مالك الانسحاب من البرنامج. في ذلك تقول: “اتخذت قرار التوقيف بنفسي. وهو وفاء لوعد مني، كنت قد قطعته على نفسي، وهو أن أنسحب في أي يوم يتجرأ فيه أحد مسؤولي قناة “الحرة” على مصادرة حلقة من البرنامج”.
الإعلامية أضافت: “وسبب انسحابي هو الرقابة التي مورست في حقي… كان موضوع الحلقة التي تعرضت للمنع هو “علاقات المغرب والجزائر وتطورات قضية الصحراء”… والواضح أن أسلوبي في إدارة دفة النقاش السياسي لم يكن محل رضى المسؤولين في “الحرة”.
إيقاف برامجها لم يثنها عن مواصلة حلمها لأجل بناء المغرب الآخر، مغربة الديمقراطية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية.
الراحلة قامت بجمع حواراتها المتميزة في برنامجيها في كتاب حمل عنوان: “الحوارات السياسية: (وجه وحدث)، و(في الواجهة) 1993-2003“، بعد تشجيع من الكاتب الراحل محمد العربي المساري.
محمد العربي المساري صدّر الكتاب بمقدمة قال فيها: “نجاح برنامج مليكة مالك يرجع الفضل فيه إلى أنها استوعبت المناخ السياسي الذي كان سائدا، بل وساهمت في بنائه بشكل أساسي؛ حيث كان البث المباشر حينها إيذانا بإلغاء هاجس الرقابة، وكان الفضل فيه للمهنية العالية التي كانت تجسدها الراحلة في تجربتها الإعلامية”.