التطرف في المغرب: من الجذور النصية إلى المقاربة الأمنية - Marayana - مرايانا
×
×

التطرف في المغرب: من الجذور النصية إلى المقاربة الأمنية

للخروج من الحلقة المفرغة وقطع سلاسل إنتاج التطرف، الواجب اليوم، هو نقد النص الديني ونقد حمولته الفقهية دون خدش قداسته، وذلك بإعادة قراءته لفهم كيف كان يخدم ظروفه الخاصة، وكيف يمكن تجاوزه للانسجام مع القيم الإنسانية الحديثة؛ مع الاحتفاظ بكل شحنته الروحية للمؤمنين به.
معادلة صعبة، وعملية جراحية لاستئصال ورم من الدماغ دون المساس بخلاياه الحيوية. هذه المجابهة الصريحة والمعلنة تتطلب مقاربة مؤسسية يتداخل فيها التعليم والإعلام والإرادة السياسية، لتحريك المياه الراكدة وعدم الاستحياء من الشعبوية المسيطرة على الرأي العام. وإلا، سنبقى نفكك الخلايا الإرهابية حتى تنجح خلية يوم ما في سرطنة المجتمع والدولة.

حسن الحو
حسن الحو

يحظى المغرب بإشادة دولية في مجال مكافحة الإرهاب وإجهاض المشاريع الجهادية، والإحصائيات التي تصدرها الدوائر المختصة في وزارة الداخلية تعلل هذه الإشادة، حيث استطاعت القوات الأمنية إفشال 500 مشروع إرهابي، وتفكيك 215 خلية إرهابية منذ سنة 2002؛ آخرها القبض على عناصر موالية لداعش بـ “حد السوالم” كانت تستعد للقيام بعمليات إرهابية.

رغم التشكيك الذي رافق هذه العملية، واتهام الجهات الحكومية بفبركة المشهد وفق دراما سينمائية محبوكة لإلهاء الرأي العام عن مشاكله الحقيقية، فإن مثل هذه العمليات تُستبعد فيها الفبركة الإعلامية لأنها تحظى بمتابعة المخابرات الدولية، كما تضع سمعة المغرب السياحية على المحك كوجهة عالمية ونقطة جذب لما تتميز به من أمن واستقرار. يبقى التشكيك مسألة اجتماعية تعكس فقدان المواطن المغربي الثقة في المؤسسات والمسؤولين لانسداد الأفق السياسي والأزمة الاقتصادية التي تجعل ملايين الشباب يعانون من الفقر والبطالة. أما مسألة انتشار الفكر المتطرف، فهي معضلة اجتماعية وسياسية لا يمكن إنكار وجودها، أو مقاربتها   بنوع من البساطة التي تحصر التطرف والتشدد في جماعة إرهابية ارتأت التعبير عن مواقفها الدينية بوضوح وعلانية.

● من أين يأتي التطرف؟

التطرف أو التشدد هو مصطلح فضفاض تلجأ إليه الدوائر الأمنية والجهات السياسية لوصم سلوك الجماعات الإسلامية التي تسعى لإقامة شرع الله بالقوة، أو وصف الفهم المتشدد للجماعات السلفية للنصوص الدينية دون تأطيرها بالسياقات المختلفة.

لكن هذا التعريف القاصر، رغم شيوعه وتبنيه من طرف مفكرين كبار كـ أدونيس والجابري … لا يقترب من وصف التطرف ولا الإحاطة بحيثياته والغوص في منابعه، مما يجعل الظاهر مستمرة رغم كل الجهود الفكرية لمحاصرتها.

الذي يريد أن يشرح الظاهرة بوضوح، دون أن يدغدغ عواطف الجماهير المسلمة ويتمكن من الأسباب التي تجعل الإرهاب باقيا ويتمدد، عليه الوقوف على الجذور التي تمد هذه الكيانات بالحياة، وتشكل المرجعية الفكرية التي تستقي منها كل الجماعات المتطرفة أنساقها الفكرية.

تتفق كل الجماعات الإسلامية، السنية والشيعية، على ضرورة الوصول للحكم لتطبيق شرع الله، غير أن هذه الكيانات المقاتلة تختلف عن الجماعات المهادنة والأحزاب السياسية الإسلامية في اعتمادها الطرق العنيفة وسعيها المسلح للإطاحة بأنظمة الحكم “الكافرة”.

يمكن أن نفرق هنا بين تطرف عنيف ظاهر، وتطرف مهادن خفي يتكلف وضع الكثير من مساحيق التجميل كالمقاصد الشرعية والمرونة الفقهية لإخفاء وجهه الحقيقي. لكن الجميع خاضع لنصوص شرعية ثابتة السند واضحة الدلالة تدعو المؤمنين بها لضرورة الانقياد للأوامر الإلهية وتحكيم شرعها بين الناس لتجنب العقاب الأخروي وتحصيل النعيم والرغد الدنيوي. القاسم المشترك هو النص، وهذا الذي لا يستطيع حتى أكبر المفكرين مواجهته ولا التصريح بأنه أصل المشاكل. ومادام المسلم يؤمن إيمانا راسخا بيقينية دينه وقدسية نصوصه، فنحن أمام تطرف ممتد أو تطرف بالفعل تعبر عنه الجماعات المقاتلة وتطرف بالقوة تشكله كل الشرائح المسلمة في المجتمع؛ فالذين تجمهروا من العوام أثناء القبض على الخلية الإرهابية بـ”حد السوالم”، لو سألتهم عن تحكيم شرع الله وقطع يد السارق وحد اللوطي وقتل اليهود والنصارى والحريات الفردية… لأجاب أغلبهم بما يعتقده الذي يقفون للتفرج عليه والشماتة به.

المعضلة كبيرة ومتحققة أساسها النص المقدس بشقيه القرآني والحديثي، الذي يحتوي على أوامر ونواهي واضحة تخالف الأعراف والقيم الانسانية والحقوقية الحديثة. نصوص نابعة من سياقات تاريخية واجتماعية محددة لا يمكن فصلها عن ظروف إنتاجها ولا يمكن استصحابها لتعيش في كل زمان ومكان أو إسقاطها الحرفي على واقعنا الحديث، وإلا أنتجت لنا التطرف والإرهاب.

فمن سيعمل اليوم بقوله تعالى في سورة التوبة:

“فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ”.

أو قوله: ” قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ”

أو قول رسول الإسلام: “أُمِرْتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهم إِلاَّ بحَقِّ الإِسلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّهِ” مُتفقٌ عليه.

هذه الآيات الكثيرة والأحاديث المؤسِسة لشكل من أشكال الدول الدينية في القرون الوسطى، وما رافقها من تدوين أصولي وفقهي، هي الروافد التي تمد التيارات الإسلامية بالحمولة الفكرية التي تتمظهر في “تنظيم الدولة” و”جبهة النصرة” و”الحشد الشعبي” والأحزاب الإسلامية… كما تظل راكدة في وعي أغلب العوام حتى تتحرك في الانقلابات السياسية والانتخابات البرلمانية وتعيد صياغة المشهد بديكور ديني ضارب في العتاقة.

قد لا نكون مغالين إذا قلنا: “أن تكون مسلما غير ناقد لتراثك الديني بما تتطلبه شروط عصرك، فأنت متطرف”.

فالواجب اليوم، للخروج من الحلقة المفرغة وقطع سلاسل إنتاج التطرف، هو نقد النص الديني ونقد حمولته الفقهية دون خدش قداسته، وذلك بإعادة قراءته لفهم كيف كان يخدم ظروفه الخاصة، وكيف يمكن تجاوزه للانسجام مع القيم الإنسانية الحديثة؛ مع الاحتفاظ بكل شحنته الروحية للمؤمنين به. معادلة صعبة، وعملية جراحية لاستئصال ورم من الدماغ دون المساس بخلاياه الحيوية. هذه المجابهة الصريحة والمعلنة تتطلب مقاربة مؤسسية يتداخل فيها التعليم والإعلام والإرادة السياسية، لتحريك المياه الراكدة وعدم الاستحياء من الشعبوية المسيطرة على الرأي العام. وإلا، سنبقى نفكك الخلايا الإرهابية حتى تنجح خلية يوم ما في سرطنة المجتمع والدولة.

المقاربات الأمنية هي العلاج الأخير، والبتر بعد استحالة العلاج، والتعويل عليها كمن يروم مداواة الغصون وإهمال الجذور الفاسدة. عوض تفكيك الخلايا بعد تشكلها، ينبغي العمل على تجفيف منابعها ووقاية المجتمع من أفكارها قبل نضجها وخروجها من التنظير الفقهي إلى الممارسة الميدانية وذلك بـ:

ــ  الوعي بأن مشكلة التطرف أعمق من التعريف الظاهري أو حصرها في الجماعات السلفية المقاتلة، فالتطرف لا يتجلى فقط في الأفعال العنيفة، بل هو حالة فكرية عامة تنبع من تفسيرات جامدة للنصوص الدينية. المشكل هو النصوص دون استحياء أو مواربة مراعاة للمزاج العام المتدين، وينبغي العمل على قراءتها قراءة تاريخانية موضوعية.

ــ إعادة النظر في المناهج التعليمية والقائمين عليها، وتعزيزها بفهم حداثي تاريخي للنصوص الدينية، وتضمينها موادا للمقارنة بين الأديان والفلسفة والمنطق.

ــ فتح شعبة النقد النصي بالجامعات للتعامل مع التركة التراثية وفق مناهج العلوم الإنسانية.

ــ تعزيز دور الإعلام لتجديد الخطاب الديني، بما يتماشى مع القيم الإنسانية الحديثة، دون المساس بجوهر الإيمان الروحي الذي يغذي السلام الداخلي للمجتمع

ــ عدم المراهنة على الإسلاميين لخلق التوازنات أو استمداد الشرعية السياسية، لأن التجربة أثبتت أن ولاء الإسلاميين لا يكون إلا للنصوص التي تضبط توجهاتهم، وكل ما يظهر من مرونة وتعايش هو لحظة تربص وفقه استضعاف حتى تواتيهم اللحظة التاريخية للسطو على السلطة.

ــ مساواة الإرهاب الديني مع الفساد السياسي في التعامل بنفس الصرامة الأمنية، فالفساد السياسي والإداري لا يقل ضررا عن التطرف الديني ونتائجهما الوخيمة على المجتمع واحدة. هذه العدالة في مقاربة ملفات الفساد السياسي والتطرف الديني من شأنها أن تعيد الثقة في مؤسسات الدولة ومسؤوليها…

لقد أصبح اليوم التعامل الصريح مع التركة التراثية، وتشخيص أعراض الإرهاب ومسبباته أمرا ملحا في ظل عالم تتغير ملامحه وتتشكل سياساته الخارجية بناء على المصالح الفضلى للدول المتنافسة التي لا تعبأ بالفوضى التي ستغرق فيها الدول المحتضنة لبذور التطرف.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *