في الاختلاط والنبيذ والمتعة: من مرونة النبوة إلى تشدد الفقهاء
لو أردنا استقصاء كل الأحاديث والآثار التي تصف المجتمع في صدر الإسلام، لاحتجنا لكتاب كامل، كلها تعارض مظاهر تدين اليوم وتخالف فتاوى التشدد والتعصب.
تشددٌ ترجع أسبابه لعوامل تاريخية وتغيرات سياسية واجتماعية، أُضفِيت عليها الشرعية، فطَبعت المجتمعات الإسلامية بطابع جامد وأحكام جاهزة لا تتغير رغم تغير الظروف والزمكان، ودوران الشريعة في مجملها على النسخ والتجاوز. قضايا الاختلاط والنبيذ والمتعة، بعض من نماذج الدليل القائم على هذا الانتقال من مرونة النبوة إلى تشدد الفقهاء.
دراسة كتب الفقه المقارن توقف الباحث على حقيقة الاختلاف الكبير بين المذاهب الإسلامية. قلما تجد في مسألة فقهية قولين. تتناسل الأقوال بين علماء المذاهب وتصل أحيانا إلى الاختلاف داخل المذهب الواحد بين القديم والجديد، وبين مُتبنيي المذهب أنفسهم.
الغريب أن كل مذهب يستدل بأحاديث نبوية تنافي بضاعة المخالفين، كما يتعرض لأدلتهم بالتضعيف والنسخ والترجيح….
فوضى في الاستدلال وإن زعم علماء المسلمين أن للخلاف ضوابط تلجمه، وأصول فقه تنظم حركته… فلو كانت هناك أصول فقه مرتبطة بخيط ناظم ومنهج واضح في التنزيل والاستنباط، لما استمر الخلاف مستعرا منذ نشأة المدارس الفقهية إلى اليوم.
كل شيء مختلَف فيه، من أصغر حكم فقهي، كزكاة الفطر وحلق اللحية، إلى العقيدة في الله وصفاته… وكلما ابتعدنا عن زمن الرسول، كلما اشتد الاختلاف وتشعب وانحرف عن بساطة الحقبة النبوية إلى التشدد المصطنع، حتى أضحت الكثير من مظاهر التدين لا أصل يعضدها غير أهواء الشيوخ.
شقة عميقة بين ما كان عليه المجتمع الاسلامي في بداياته وبين الصورة الاسلامية المتكلَّفة، وهذه بعض الأمثلة على أمور كانت مباحة في صدر النبوة ثم أصبحت مخالفتها علامةً على التدين فيما بعد:
● مخاطبة النساء والاختلاط بهم
كثيرة هي الأحاديث التي تصور جانبا من الحياة الاجتماعية التي تُظهر اختلاط الرجال بالنساء دونما قيود كما تفرض ذلك التيارات الإسلامية المعاصرة.
– عن سهل بن سعد قال: لما أعرس أبو أُسَيْد الساعدي، دعا النبي وأصحابه، فما صنع لهم طعامًا ولا قَرَّبَهُ إليهم، إلا امرأته أم أسيد بَلَّتْ ثمرات في تَوْر من حجارة من الليل، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام، أَمَاثَتْهُ له، فسقته تُتْحِفُه. رواه مسلم.
– عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: “أرسلني رسول الله في غداة باردة، فأتيته وهو مع بعض نسائه في لحافه، فأدخلني في اللحاف فصرنا ثلاثة”. رواه الحاكم وقال بعد تخريجه هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، أي لم يخرجه البخاري ولا مسلم في صحيحهما، وستجد مواقع الحديث تتكلف كل صعب وذلول لتضعيف هذا الحديث والحكم عليه بالوضع واتهام الحاكم بالتساهل، لا لشيء إلا لمخالفة هذا الحديث لأهوائهم وتشددهم.
– عن أسماء رضي الله عنها قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيء غير ناضح، وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء، وأخرز غربه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يوما والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: “إخ إخ” ليحملني خلفه..” رواه مسلم.
وكالعادة، اعتبر شيوخ الإسلام أن هذا من خصائص النبي!! مخالفين الشروط التي تجعل بعض الأفعال خصيصة من خصائصه. وحرموا إرداف النساء اقتداءً به مخافة الافتتان.
– عن بريدة الأسلمي قال: “خرجَ رسولُ الله في بعضِ مَغازيهِ، فلمَّا انصرفَ جاءت جاريةٌ سوداءُ، فقالت: يا رسولَ اللَّهِ إنِّي كُنتُ نذرتُ إن ردَّكَ اللَّهُ سالمًا أن أضربَ بينَ يديكَ بالدُّفِّ وأتغنَّى، فقالَ لَها رسولُ الله: إن كنتِ نذَرتِ فاضربي وإلَّا فلا. فجعَلت تضرِبُ، فدخلَ أبو بَكْرٍ وَهيَ تضربُ، ثمَّ دخلَ عليٌّ وَهيَ تضربُ، ثمَّ دخلَ عُثمانُ وَهيَ تضربُ..” صحيح الترمذي للألباني.
المقصود أن الأحاديث المبيحة لاختلاط الرجال بالنساء كثيرة لا يتسع لها المقال، تتظافر كلها في وصف المجتمع النبوي بالمرونة في التعامل بين الجنسين وانسيابية الحياة الاجتماعية دون احترازات وقيود. لكن، مَن مِن إسلاميي اليوم سيسمح بإرداف النساء خلف أجنبي عنهن، ومَن منهم سيسمح لهم بخدمة ضيوفه أو مشاهدة الصراع والرقص كما سمح النبي لعائشة بمشاهدة الحبشة وهم يرقصون في المسجد بالحراب….
● زواج المتعة
نكاح المتعة أو الزواج المؤقت هو زواج لمدة محددة من الزمن، يكون مقابل أجر ولو كان هذا الأجر قبضة من ثمر أو دقيق، وينتهي بانتهاء المدة دون الحاجة لأي إجراء من إجراءات الطلاق، وحَدُّه الزمني الأدنى عند أهل السنة ثلاثة أيام و ليس له حد أقصى، وعند الشيعة قد يكون الأجل ساعة أو عدة سنوات، ويثبت نسب الأبناء من المتعة وميراثهم، أما الزوجة فلا ترث وليس لها نفقة على الزوج.
الثابت في هذا النوع من الزواج بتتبع النصوص الواردة فيه أنه ظل جائزا حتى بعد وفاة رسول الإسلام، لكن تشدد عمر بن الخطاب ومن جاء من بعده حرموا أمرا مباحا كان سيساعد على حل معضلات اجتماعية كثيرة. وسنقتصر على ذكر بعض الأحاديث لكثرتها عن زواج المتعة وإباحته:
– كُنَّا نَغْزُو مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وليسَ معنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: ألَا نَخْتَصِي؟ فَنَهَانَا عن ذلكَ، فَرَخَّصَ لَنَا بَعْدَ ذلكَ أنْ نَتَزَوَّجَ المَرْأَةَ بالثَّوْبِ ثُمَّ قَرَأَ: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}.
الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث: البخاري.
– كنا نتمتَّعُ على عهدِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالثَّوبِ.
الراوي: أبو سعيد الخدري المحدث: الهيثمي المصدر: مجمع الزوائد حكم المحدث: رجاله رجال الصحيح.
– خَرَجَ عَلَيْنَا مُنَادِي رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ: إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا يَعْنِي مُتْعَةَ النِّسَاءِ.
الراوي: جابر بن عبدالله وسلمة بن الأكوع المحدث: مسلم.
– قَدِمَ جَابِرُ بنُ عبدِ اللهِ مُعْتَمِرًا، فَجِئْنَاهُ في مَنْزِلِهِ، فَسَأَلَهُ القَوْمُ عن أَشْيَاءَ، ثُمَّ ذَكَرُوا المُتْعَةَ، فَقالَ: نَعَمْ، اسْتَمْتَعْنَا علَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ.
الراوي: جابر بن عبدالله المحدث: مسلم.
– أنَّ مطرِّفًا عاد عمرانَ بنَ حُصينٍ فقال له: إنِّي محدِّثُك حديثًا فإنْ برئت مِن وجَعي فلا تُحدِّثْ به ولو مضَيْتُ لِشأني فحدِّثْ به إنْ بدا لك: إنَّا استمتَعْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمَّ لم يَنْهَنا عنه حتَّى مات صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، رأى رجُلٌ رأيَه الراوي: عمران بن الحصين المحدث: صحيح ابن حبان.
– نهى أبو بكرٍ وعمرُ عن المتعةِ فقال: ابنُ عباسٍ ما يقولُ عُرَيَّةُ قال يقول نهى أبو بكرٍ وعمرُ عن المتعةِ فقال ابنُ عباسٍ أراهم سيَهلكون أقولُ قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ويقولُ نهى أبو بكرٍ وعمرُ.
الراوي: عبدالله بن عباس، المصدر: مسند أحمد حكم المحدث احمد شاكر: إسناده صحيح.
– سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: سُئِلَ عن مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَرَخَّصَ، فَقالَ له مَوْلًى له: إنَّما ذلكَ في الحَالِ الشَّدِيدِ، وفي النِّسَاءِ قِلَّةٌ؟ أوْ نَحْوَهُ، فَقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ. الراوي: أبو جمرة نصر بن عمران المحدث: البخاري.
وقد دأب بعض الصحابة والتابعين على الاستمتاع بعد وفاة رسول الله دون الاكتراث برأي عمر، على رأسهم حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، كما أباحها من المعاصرين المفسر الطاهر بن عاشور.
لكن، بمجرد الكلام اليوم عن المتعة، يصير المرء زنديقا وكافرا بلا أخلاق، مع أن الأمر مباح أو مختلف فيه على أقل تقدير.
● شرب النبيذ (البيرَّة):
قد لا يعلم الكثير من المسلمين أن شرب الخمر كان مباحا في الديانات السابقة وأن النبي يوسف فسر رؤيا الملك بقوله: “ثم يأتي عام من بعد ذلك فيه يغاث الناس وفيه يعصرون”، بوفرة عصير الخمور بعد سنين الجفاف. وقد ظلت الخمر مباحة بعد البعثة النبوية طوال الفترة المكية حتى نهى عنها رسول الإسلام نهْيَ تأديبٍ، بعدما بدأت تعوق حركة الدعوة الاسلامية التي كانت تحتاج لمقاتلين في كامل قواهم العقلية للدفاع عن الدويلة الوليدة. ولعل الحادثة المشهورة لحمزة مع علي بن أبي طالب هي الفيصل الأخير الذي دفع نبي الإسلام للنهي عن معاقرة الخمر. عن علي قال: “كَانَتْ لي شَارِفٌ مِن نَصِيبِي مِنَ المَغْنَمِ يَومَ بَدْرٍ، وكانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أعْطَانِي ممَّا أفَاءَ اللَّهُ عليه مِنَ الخُمُسِ يَومَئذٍ، فَلَمَّا أرَدْتُ أنْ أبْتَنِيَ بفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ بنْتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا في بَنِي قَيْنُقَاعَ أنْ يَرْتَحِلَ مَعِي، فَنَأْتِيَ بإذْخِرٍ، فأرَدْتُ أنْ أبِيعَهُ مِنَ الصَّوَّاغِينَ، فَنَسْتَعِينَ به في وَلِيمَةِ عُرْسِي، فَبيْنَما أنَا أجْمَعُ لِشَارِفَيَّ مِنَ الأقْتَابِ والغَرَائِرِ والحِبَالِ، وشَارِفَايَ مُنَاخَانِ إلى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، حتَّى جَمَعْتُ ما جَمَعْتُ، فَإِذَا أنَا بشَارِفَيَّ قدْ أُجِبَّتْ أسْنِمَتُهَا، وبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا، وأُخِذَ مِن أكْبَادِهِمَا، فَلَمْ أمْلِكْ عَيْنَيَّ حِينَ رَأَيْتُ المَنْظَرَ، قُلتُ: مَن فَعَلَ هذا؟ قالوا: فَعَلَهُ حَمْزَةُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ، وهو في هذا البَيْتِ في شَرْبٍ مِنَ الأنْصَارِ، عِنْدَهُ قَيْنَةٌ وأَصْحَابُهُ، فَقالَتْ في غِنَائِهَا: أَلَا يا حَمْزُ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ، فَوَثَبَ حَمْزَةُ إلى السَّيْفِ، فأجَبَّ أسْنِمَتَهُما، وبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، وأَخَذَ مِن أكْبَادِهِمَا. قالَ عَلِيٌّ: فَانْطَلَقْتُ حتَّى أدْخُلَ علَى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعِنْدَهُ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ، وعَرَفَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي لَقِيتُ، فَقالَ: ما لكَ؟ قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، ما رَأَيْتُ كَاليَومِ؛ عَدَا حَمْزَةُ علَى نَاقَتَيَّ، فأجَبَّ أسْنِمَتَهُمَا، وبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، وهَا هو ذَا في بَيْتٍ معهُ شَرْبٌ، فَدَعَا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ برِدَائِهِ فَارْتَدَى، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي، واتَّبَعْتُهُ أنَا وزَيْدُ بنُ حَارِثَةَ، حتَّى جَاءَ البَيْتَ الذي فيه حَمْزَةُ، فَاسْتَأْذَنَ عليه، فَأُذِنَ له، فَطَفِقَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَلُومُ حَمْزَةَ فِيما فَعَلَ، فَإِذَا حَمْزَةُ ثَمِلٌ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، فَنَظَرَ حَمْزَةُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إلى رُكْبَتِهِ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إلى وجْهِهِ، ثُمَّ قالَ حَمْزَةُ: وهلْ أنتُمْ إلَّا عَبِيدٌ لأبِي! فَعَرَفَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه ثَمِلٌ، فَنَكَصَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى عَقِبَيْهِ القَهْقَرَى، فَخَرَجَ وخَرَجْنَا معهُ. صحيح البخاري.
ولا يخفى ما في هذا الحديث من تساهل رسول الاسلام مع الندماء الذين اجتمعوا في مجلس شرب تغنهيم قينة حسناء، كما لا يخفى ما فيه من إهانة واضحة للرسول والتعريض بنبوته من طرف عمه وقائد جيشه.
وإذا كانت الخمر المتخذة من العنب شبه متفق على تحريمها، فإن النبيذ الذي يُصنع من نقع التمر أو الشعير في الماء ظل شربه حلالا حتى بعد نزول آيات تحريم الخمر (وقد خصصنا، في مرايانا، ملفا كاملا عن تاريخ الخمر في الإسلام تجدون هنا رابط جزئه الأول).
– عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتبذ له أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك والليلة التي تجيء والغد والليلة الأخرى والغد إلى العصر، فإن بقي شيء سقاه الخادم أو أمر به فصب. صحيح مسلم.
– أنَّ رَجُلًا نادى ابنَ عبَّاسٍ، والنَّاسُ حَولَه، فقال: أَسُنَّةً تَبتَغون بِهذا النَّبيذِ؟ أم هو أَهوَنُ عليكم مِن اللَّبَنِ والعَسَلِ؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ: جاء النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عبَّاسًا، فقال: اسْقونا. فقال: إنَّ هذا النَّبيذَ شَرابٌ قد مُغِثَ ومُرِثَ، أَفَلا نَسقيكَ لَبَنًا أو عَسَلًا؟ قال: اسْقونا مِمَّا تَسْقون منه النَّاسَ. فأَتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومعه أَصحابُه مِن المُهاجِرينَ والأَنصارِ بِسِقاءَيْنِ فيهما النَّبيذُ، فلمَّا شرِبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، عَجِلَ قبْلَ أنْ يُروى، فرفَعَ رَأْسَه، فقال: أحسَنتُم، هكذا فاصنَعوا. قال ابنُ عبَّاسٍ: فرِضى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك أَحَبُّ إليَّ مِن أنْ تَسيلَ شِعابُها لَبَنًا وعَسَلًا. رواه أحمد وابن سعد والفاكهي وصححه شعيب الأرناؤوط. ومعنى مُغِث ومُرِث أي أن الشيء المنبوذ قد دُلِك وطُحن وطال نقعه حتى تغير لونه.
– وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (مَن شَرِبَ النَّبيّذَ مِنكُم فَليَشرَبهُ زَبِيبًا فَردًا فَردًا أَو بُسرًا فَردًا أَو تَمرًا). مسلم – كتاب الأشربة.
– عن عبد الرحمن بن عثمان قال: صاحبت عمر بن الخطاب رضي اللهعنه إلى مكة، فأهدى له ركب من ثقيف سطيحتين من نبيذ، والسطيحة فوق الإداوة، ودون المزادة. قال عبد الرحمن بن عثمان: فشرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إحداهما. ثم أهدي له لبن فعدله عن شرب الأخرى حتى اشتد ما فيها، فذهب عمر بن الخطاب ليشرب منها فوجده قد اشتد فقال: اكسروه بالماء. فإنما كان اشتداده والله أعلم بالحموضة أو بالحلاوة فقد روي عن نافع مولى ابن عمر أن عمر بن الخطاب قال: اذهب إلى إخواننا فالتمس لنا عندهم شرابا، فأتاهم فقالوا: ما عندنا إلا هذه الإداوة وقد تغيرت، فدعا بها عمر رضي الله عنه فذاقها فقبض وجهه، ثم دعا بماء فصب عليه ثم شرب. قال نافع: والله ما قبض وجهه إلا أنها تخللت. رواه البيهقي في السنن الكبرى.
أحاديث إباحة النبيذ وشيوع تعاطيه بين أهل المدينة تبين أنه كان أمرا شائعا، بل كان معدودا من مؤونتهم وغذائهم. وكل ما يعقِّب به إسلاميو اليوم على هذه الأحاديث من تأويلات متعسفة وترجيحات مختلة هي عبارة عن ترقيع مكشوف لإضفاءِ شرعيةٍ مفتقدة على مخالفتهم لما كان عليه الصدر الأول من المجتمع الإسلامي، فالنبيذ إذا انتبِذ ليوم واحد فقط في جو دافئ يكون به 0.5 أو 1% على الأقل من الكحول، فما بالك إذا نُقع لثلاث أيام كما جاء في حديث مسلم وفي مناخ حار كمناخ شبه الجزيرة العربية، أكيد ستتجاوز نسبة الكحول به 2 و3% في المئة. هنا، سيكون حديث ما أسكر قليله فكثيره حرام عبث في عبث أو أنه حديث موضوع، إذ لا يمكن أن لا يعلم الله أن النبيذ به نسبة قليلة من الكحول ثم يبيحه لرسوله ويوحي إليه بحرمة الأشربة المتضمنة للقليل من الكحول!
ولو أردنا استقصاء كل الأحاديث والآثار التي تصف المجتمع في صدر الإسلام، لاحتجنا لكتاب كامل، كلها تعارض مظاهر تدين اليوم وتخالف فتاوى التشدد والتعصب.
تشددٌ ترجع أسبابه لعوامل تاريخية وتغيرات سياسية واجتماعية، أُضفِيت عليها الشرعية فطَبعت المجتمعات الإسلامية بطابع جامد وأحكام جاهزة لا تتغير رغم تغير الظروف والزمكان، ودوران الشريعة في مجملها على النسخ والتجاوز، فالقرآن المكي ليس كالقرآن المدني، وشرائع الأديان السابقة ليست كشرائعنا رغم وحدة المصدر، فالمطلوب اليوم هو تشَرُّب مقصد التشريع الذي خالف الكثير من شرائع الأديان السابقة، كتحريم زنا المحارم بعد حله ونسخ الكثير من الأحكام التي شرعت في بداية الدعوة مراعاة للظروف، فلو كانت الشرائع ثابتة ربانية المصدر فليس من الحكمة أن تباح في زمان وتحرم وتُنسخ في زمان آخر، فالحرام حرام بصرف النظر عن الزمان والمكان، أما إذا كانت الشرائع نسبية تتبع المصالح فهي إنسانية بامتياز وتدور حيث تدور المصالح، وهذا هو المرَجَّح استقراءً لنصوص التشريع، وهنا يمكن أن نفتح بابا ظل موصدا منذ قرون، أولا لإحياء مظاهر الاعتدال والبساطة في العهد النبوي، وثانيا لمراجعة كل النصوص التي شُّرعت لسياقاتها التاريخية والاجتماعية، وسننتقل بهذا النظر المتجاوِز لجمود التيارات الإسلامية من المطلق إلى النسبي ومن الثابت إلى المتحول، ولن نغرق في قطرة ماء كما يحدث كل مرة يُراد فيها تغيير نصوص مدونة الأسرة أو القانون الجنائي أو تشريع أحكام لم ترد في كتاب ولا سنة.
إن هذه النسبية في التعاطي مع الشرع والتشريع تضمن دوام النص المقدس بدوام مقصده والأساس الذي بُنِي عليه، وهو المرونة ومراعاة المصالح، وتجعل أصول الفقه أداة لتطوير الاجتهاد وليست تكريسا لفقه مكرر يخدم أجندات سياسية ومصالح فئوية ضيقة.