مُدنٌ مُزدحمَةٌ بالوَحدَة: المدن الحديثة والعزلة الاجتماعية - Marayana - مرايانا
×
×

مُدنٌ مُزدحمَةٌ بالوَحدَة: المدن الحديثة والعزلة الاجتماعية

في المدن الحديثة، يكفي التأمّل في هذه الشقق السكنيّة الكئيبة المحيطة بنا، وهذه الأزقة الّتي تفتقر لأيّة روابط اجتماعية تقليدية. هذه الشقق العالية المظلمة تساهم بشكل كبير في تعزيز العزلة و”المجهولية” كما تفتقر للتجانس السكّاني، حيث كل فرد يسكن شقّة ولا يعرف من يسكن جواره، ولو أنّ الفرق بين الشقّتين مجرّد حائط

وأنت تتمشّى في إحدى المساءات في شوارع مدينتك الكبيرة، الملآى بالبنايات، المُزدحمة بآلاف -وربّما ملايين- البشر، ألم تشعر يومًا بأنّك وحيد؟ ألم يداهمك ذلك الشعور الصادم بأنّك بين كل هؤلاء غارقٌ في وحدتك؟ سؤال صعب أليس كذلك؟ لكنّني سألت نفسي هذا السؤال. كان الأمر صادما بالنسبَة لي، بقدر ماهو حقيقة صادمةٌ لملايين البَشر.

في هذه التجمُّعات السكنية الضّخمة، هذه الأماكن الّتي تضجّ بالحركة والنشاط، يشعر النّاس بمزيد من الوحدة والعزلة الاجتماعيّة. هذا التناقض بين الكثافة السكّانية والشعور بالانعزال أمر مثير للاهتمام.

إن العيش في نمط حياة المدينة السريع المُرهق، حيث ينشغل النّاس في البحث عن لقمة العيش، يصعّب خلق علاقات اجتماعية حقيقية، بل يجعل الحفاظ على متانَة العلاقات الاجتماعية القائمة أمرًا معقّدا. وهذا ما يزيد من الفجوة بين الفرد والآخر، ويدفعه للوحدة والعزلة الاجتماعية.

أظنّ أن هذه المعظلَة هي ما دفعنا للارتباط أكثر بمواقع التواصل الاجتماعي، حيث استَبدلنا التفاعل الاجتماعي الواقعي بآخر الكتروني سطحيّ. هذا الاعتماد المُبالغ فيه على وسائل التواصل الالكترونية عَمَّقَ الفجوة بين حيواتنا الواقعيّة والأخرى الافتراضيَة. أصبحَت الرسائل الالكترونية تعوّض اللقاءات المباشرَة، المَشاعرُ تعوّضها مُلصقات وصُورٌ تعبيريّة، والتفاعلاتُ اللحظيَة العفوية استُبدلت بأخرى الكترونيَة جافّة… هذه الأشياء ساهمَت في تعزيز الشعور بالوحدة. يُمكنك خلق علاقات لامحدُودة من النّاس عبر فيسبوك، إنستغرام، تويتر… لكنّ تلك العلاقات تبقى سطحية وخالية من أية روابط عاطفيّة حقيقية، إذ أنّ هذه الأخيرة لا تتحقّق إلا عبر التواصل الفيزيائي المُباشر.

أشير كذلك إلى نقطة مهمّة، هي أن الفرد في مواقع التواصل يحاول تقديم أحسن صورة لنفسه وشخصيته، وإن كانت تتنافى مع واقعه وحقيقته، هذا التزييف يؤدي لانفصاله عن ذاته الحقيقية ويزيد من الفجوة بين علاقاته الشخصية الحقيقية والتمظهر الرقمي.

إنّها مفارقة كبيرة، أليس كذك؟ لقد وُجدت مواقع التواصل الاجتماعي لتوطيد العلاقات الاجتماعية وتقريب الأفراد بعضهم ببعض، لكن الواقع أن هذه المواقع عزّزت العزلة الاجتماعية.

هنا سأطرح أيضا سؤالاً عن دور العائلة، هل لازالت العائلة حضنًا لدفن الوحدة، أم أنّ أدوارها كمؤسسة اجتماعية في الدعم العاطفي والاجتماعي في الأوقات العصيبَة بدأت تتراجع لصالح الفردانية؟ وهل وجود العائلة في حياة الفرد يعني بالضرورة عدم وقوعه في شَرَك العزلة؟

الانتقال إلى نمط الحياة الحضرية غيّر من بنية مؤسسة العائلة، حيث ظهرت الأسرة النوويّة المكونة من الأب والأم والأبناء فقط، وأصبحت العلاقات مجرّد علاقات “وظيفية” يكون التواصل فيها مقتصرا على الضرورات المادية والعملية. هذا التغيير فرض على العلاقات الأسرية الانفصال وقلّة التفاعل، ما أدّى إلى تراجع دور العائلة المُمتدّة وفُقدان الأفراد لحاجاتهم في الدعم الاجتماعي والعاطفي. ثم ظهرت المفاهيم الجديدة كالاستقلال الشخصي والإكتفاء الذاتي التي دفعت الأفراد إلى الانفصال عن عائلاتهم والتركيز على حيواتهم الشخصية والمهنية. نتج هذا الانفصال، ضعف علاقاتهم التواصلية والاجتماعية، وبالتالي مزيدا من العزلة.

لم يُخلق الانسان ليعيش وحيدًا، إنّها حقيقة اجتماعية وتاريخية لا يمكنُنا انكارها ببساطة. الوحدَة أمر خطير على الفرد، والحياة الحضرية لا تزيد الطّين إلاّ بلّة. بالرغم من أن الظروف الحياتية تتحسّن يوما على يوم، إلا أنه لا يمكن لهذا أن يغطي على حقيقة أنّه، في المدن الكبيرة، تؤدي العُزلة إلى انخفاض جودة الحياة بشكل عام، حيث يشعر الفرد بأنّه غير راضٍ على حياته، لأن روابطه الاجتماعية ضعيفة جدًّا، مما يجعل الحياة أقل إرضاءً.

أريد الإشارة كذلك إلى البيئة العامّة للمدينة بهندستها وديكُورها، والتي قد تكون سببا من أسباب الوحدة؛ حيث لا توجد مساحات مشتركة يمكن للأفراد أن يخلقوا فيها ومن خلالها روابط اجتماعية متينة ويعزّزوا تفاعلاتهم الاجتماعية. هذه المساحات التي ساهمت تاريخيًا في تعزيز التفاعل الاجتماعي، والتي أصبحت شبه منعدمة في المدن الحديثة.

يكفي التأمّل في هذه الشقق السكنيّة الكئيبة المحيطة بنا، وهذه الأزقة الّتي تفتقر لأيّة روابط اجتماعية تقليدية. هذه الشقق العالية المظلمة تساهم بشكل كبير في تعزيز العزلة و”المجهولية” كما تفتقر للتجانس السكّاني، حيث كل فرد يسكن شقّة ولا يعرف من يسكن جواره، ولو أنّ الفرق بين الشقّتين مجرّد حائط. هذه الصّناديق الكئيبة تحتاج لمساحات مفتوحة مثل الحدائق الصغيرة والفناءات المفتوحة التي تتيح فرصة لتبادل أطراف الحديث بين الجيران، بدل تلك الأزقة التي لا تشكّل في غالب الأحيان إلا معابر سريعة تستخدم للتنقل دون أن تكون لها وظيفة اجتماعية. في أزقّة المدن، يغيب الشعور بالمجتمع ويتعزّز الشعور بالفردانية، يصبح كلّ فرد منشغلا بوجهته الخاصّة. أمّا الأحياء السكنية، فهي مجرد منازل يسكنها أفراد منعزلُون بدون روابط تواصل.

إنّ الجو العام للمدينة لا يعزّز إلاّ على العزلة الاجتماعية والوحدة.

في المجتمعات الحديثة، على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي “إميل دوركايم”، يصبح الفرد جزءًا من شبكة عمل معقدة تعتمد على التخصص والتعاون الوظيفي، مما يقلل من العلاقات الاجتماعية الحميمة ويزيد من الشعور بالانفصال عن الآخرين.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *