أبناء عاملات الجنس: حين يعاقب المجتمع لفيفا من الأبرياء
هناك أبناءٌ يولدون في أسر وداخل مؤسسة الزواج، وهناك أبناء ولدوا من طرف أمهات عازبات، وثمّة أمّهاتٌ أَنجبنَ في “ماخور” ما.
هي في الأصل عمليّة ولادة، لكن، هل كلّ من يولد، يكون له ذات المصير في المجتمع؟
حديثنا هنا عن… أبناء عاملات الجنس!
الأبناء الذين ولدوا في “المواخير” حياتهم مختلفة تماما، فهم لا يحاكمون بسبب سلوكاتهم أو تصرفاتهم. هم متّهمون بشيء آخر مختلف: أنهم أبناء وبنات عاملات جنس. لكن، كيف يمكن أن نقترب من قسوة مجتمع مركّب تجاه أشخاص معينين… لأسباب لا دخل لهم فيها بشكل مباشر أو غير مباشر؟
مقصيّون في المجتمع؟
لمياء (اسم مستعار)، هي فتاة تبلغ من العمر 23 سنة، كبرت وترعرعت داخل “ماخور” في مدينة صغيرة جنوب شرق المغرب. تعتبر هذه الفتاة أنّها ضحية لأن المجتمع كان دائما “قاسيا” بشكل لا يُوصف بالنسبة لها. “كنتُ مقصيّة من اللّعب مع الصّغار، رغم أنّ بيتنا يقعُ في فضاء يخصّ تجارة الجنس حصراً، أي بعيد تماما عن الأحياء السّكنية. لكن، بلغ إلى علم والدة صديقتي في الطّفولة أنّ “مهنة” والدتي محرّمة مجتمعيّا ودينيّا، فحرّمت على ابنتها اللعب معي أيضا”.
“كان ذلك من أقسى أشكالُ الإقصاء التي تعرّضت لها، وكنتحينها أدرس في السّنة الأولى ابتدائي وعمري 7 سنوات. آلمني ذلك حين أخبرتني زميلة بالفصل بأنّ والديها هددوها إن رأوها معي مجدداً بعقاب شديد”، تقول لمياء، قبل أن تضيف: “كنت أرغب في مغادرة الدّراسة. لكنّ والدتي رفضت ذلك، وقالت “إنّهم أشرار فقط، يكرهون الجميلات مثلي!”. لم أستوعب عمل والدتي إلا بعد سنوات من ذلك الوقت، رغم أنّ تعاملها اليوميّ مع الرجال كان يتم بكثافة مقارنة مع لقاءاتها بالنساء، اللائي أغلبهنّ محترفات في مجال الجنس”.
ضمن حديثها لمرايانا، تصرّح لمياء أنّها كانت تميل كثيراً للعُزلة، خصوصا أن المدينة صغيرة وغارقة في قيمها المحافظة، والكلّ يعرفُ الكلّ هناك. ثم تكشفُ المتحدّثة: كنت في زمن ما، أعيش حياة مرتبكة جدا، فمثلاً حين يطيل شخصٌ النّظر إليّ، لا أعتبره معجبًا أو متحرشا كما قد تظنّ فتاة أخرى. كانت تراودني أفكار أنّه يسأل نفسه: “هل تلك هي ابنة فلانة؟”… كنت أشعر بحريّة وارتياح رائعين حين أغادر المدينة في الصّيف. مبهر أن تعيش ولا يعرفك أحد. لكني، في المقابل، حرمت من زيارة جدتي، لأنّ نفس الحكاية ستُعاد هناك في بيت جدتي بالبلدة. الكل يعرف الحكاية هناك، والكل سيقول: تلك ابنة فُلانة التي هاجرت البلدة!
حكاية هذه المتحدثة هي، ربما، مدخل لفهم مجتمع ينظر إلى الذات دون فصلها مُطلقا عن سياقاتها أو محيطها. لذلك، نجد أنّ لؤي، الذي تردّد كثيراً في مشاركة قصّته، قبل أن يطمئنّ إلى كونتلك المشاهد قد صارت، الآن، بلا أثر رجعي.
يقول لؤي (23 سنة): “منذ كنتُ صغيراً، كان الرّجال يدخلون ويخرجون من بيتنا، بمختلف الأصناف والأشكال والأحجام. استوعبت أن والدتي عاملة جنس حين كبرت قليلاً. لا يمكن أبدا وصف ذلك الشعور، فهو تدمير واضح لكلّ رغبة في العيش. حين كنت أتذكر بعض “الزوار” الذين يقدمون لي الحلوى، كان ذلك يشعرني بالرّغبة في التقيّؤ”.
كان لؤي حريصا في البداية ألا يعرف الناس سكنه، كانيذهب للدراسة من طريق خلفية، علّ من يصادفه يعتبره قادما من حيّ آخر في الجانب المعاكس. كما أنه لا يخشى الحديث عن أنه شعر مراراً بغضب من والدته، لكنّه لم يستطع تغيير الأمر الواقع، حيث يواصل قائلاً: “كنتُ صغيراً، ولا يمكن أن أهرب من البيت لأنه ليس لديّ أيّ مكان لأذهب له. كنت أميل إلى عدم اللّعب أو الخروج مع أبناء المهنيات الأخريات داخل الحيّ، كنت أود الخروج من ذلك المحيط بأيّ ثمن”.
يجمل المتحدث قائلاً: “كنت حريصا حتى على عدم التلفظ بالكلمات النّابية، ولا أثير مشاكلاً مع الآخرين. كنت مسالما بشكل مريب. كنت أعرف أنّ أيّ سلوك معيّن قد يجعلهم يقولون: “هذا نتيجة طبيعيّة لما تقوم به والدته!”. قبل أن يعمل المجتمعُ على إقصائي، كنت أمارس إقصاءً ذاتيا لأنّ علاقتي بالمجتمع برمّته كانت حذرة للغاية”.
كُلفة التحدي
“حين كنتُ في الثانية إعدادي، عرفتُ أنّ وضعيتي مكلفة نفسيّا. أعرف عمل والدتي، لكني أودّ أن أبرز أنّني لا علاقة لي بكلّ ذلك، وأنني لستُ راضيا عنهُ. سعيت أن أحصل على أعلى النقط وأن أقدم دليلا على أنني لست أقل من الآخرين. والدتي أيضا خصّتني بكلّ الرّعاية ولم تدّخر مالاً ولا جهداً لكي تشجعني على الاندماج في المجتمع. حصدت معدلات مرتفعة وكنت من بين الأوائل، تلقيت عدة تكريمات وشواهد تقديرية. جلب لي ذلك احتراما من طرف أساتذتي وزملائي وإدارة المؤسسة”.
هكذا يقدمُ معاذ ما عاشه قبل أكثر من عقد من الزّمن، حين كان يدرس بالثانوي وقبل ذلك بالإعدادي. لكنّ التفوّق استمرّ حتى تمكن محدثنا من ولوج كليّة الطبّ بمراكش. يقول: كانت رحلة ملهمة بكلفة نفسية مرتفعة، فأنت مهما كنت مجتهدا، فهم يعتبرونك ابنا لتلك السيدة، ولا شيء غير ذلك.
معاذ يسترسل موضحا: حين بلغت الأولى باكالوريا، توقفت والدتي عن امتهان الجنس، أشعرني ذلك براحة كبيرة. لم أكن راضيا على ما تقوم به، لكن لم يكن لديّ خيار. قال لي أحدهم مرة: “لو كانت تلك أمي لقتلتها!”. لن يستطيع، أولا لأن هذا التّصرف الوحشيّ ليس شيئا عاديا، وثانيا لأن هذا إجرام وأنا حصلتُ على تربية مختلفة ومثمرة رغم أنّها تمّت في فضاء “حرام” وفق كلّ القوانين، حتى قوانيني أنا”.
بهذا، لا تختلف حكاية مليكة (27 سنة)، التي تقدم أيضا لمحة عن الكلفة التي وجدت نفسها مضطرة لدفعها، حين قررت أن تزيلالفرامل التي أراد المجتمع أن يضعها لحياتها؛ تقولُ بمرارة: “كنتُ ممنوعة من زيارة خالاتي. لكني كنتُ أبذل جهداً حتى تبقى علاقتي معهنّ جيدة. تمكنت في النهاية من إقناعهنّ أنني منفصلةتماما عن واقع أمي. كنت أظهر تدينا مبالغا فيه أمامهنّ ليتأكدن من مدى خوفي من الله. ما قمت به مع خالاتي هو نفس ما قمت به مع المجتمع. فرض عليّ ذلك أن أكون في بعض الأحيان منافقة، لكن بشكل استراتيجي فقط”.
تضيفُ مليكة في حديثها إلينا: “كنتُ أخاف ردات الفعل. أخاف أن يتمّ جرح مشاعري بسبب هذا الموضوع. في نفس الوقت، لم أرد أن أنتحر عائليّا و مجتمعيّا. كان الوضع صعبًا، لكنني نجحت في الامتحان. كنت لا أرتبط بالذكور دفعا للشكوك؛ وكنتُ أظهر التزاما كبيرا بالأخلاق العامة للمحيط. تلك كانت أخلاقي أصلاً ولا أفتعلها، وهي ما ساهم في أن أكون شخصا نشيطا وفاعلاً في محيطه. كنت أقوم بأي شيء حتى لا أبقى على هامش المجتمع، كالانخراط في العمل الجمعوي والأنشطة الموازية بالمدرسة”.
في النهاية، تقول مليكة إنّ المصائر تختلف، فهناك من علقن بما يجري في “الماخور” وأصبحن أيضا مهنيات جنس… ليست كل من ولدت في ذلك العالم قاومته وتخلصت منه، كما أنّ هناك من انفصل تماما عن ذلك الواقع ويعيش حياته بشكل عاديّ كأي فرد آخر من المجتمع. المشكل أنّ مجتمعنا لا يفهم أنّنا أبرياء من أشياء حاكمنا بها وحاول أن يحكم علينا أيضا… بالموت الوجودي بسببها.
مقالات قد تثير اهتمامك:
- العنف المنزلي في القرون الوسطى: كيف منحت الأعراف “الأوروبية” للزوج الحقّ في تعنيف شريكته؟ 1\2
- تاريخ العنف المنزلي: هكذا كسبت النسوية أشرس المعارك الفكرية في تاريخها 2\2
- العنف المدرسي بالمغرب: واقع اجتماعي”صعب” وغياب حلول “ناجعة”…
- عن العنف والتحرش الجنسي في المدرسة وضعف الكفايات… مجلس عزيمان يدقّ ناقوس الخطر!
- التعليم… إصلاح الفشل وفشل الإصلاح 1\2