هشام روزاق يكتب: أنا حضرت الحلم… أعراض مرض الكبار (الحلقة الأخيرة)
… سأظل عاجزا عن لغة تستطيع لكل هذا الجنون حرفا. انتهت مباراتنا مع فرنسا، فكان المغربي الذي صنعه فينا “الوليدات” يخرج رغما عنا.
يومها… لم نقل إنها هزيمة بطعم نصر. لم نقل كان أداء مشرفا. يومها… بكينا. بكينا كما يبكي مدمن انتصار أمام هزيمة.
بكينا… وكان الدمع أول خيوط الحكاية، حكاية بلد، صار يبكي لأنه بلغ مربع الكبار، ولأنه لم يعد يقبل أن ينظر للآخرين من تحت… صار ينظر لنفسه، وللآخرين، من فوق.
… “الوليدات”، جعلونا كبارا في لحظة. جعلونا سكان الطابق العلوي للعالم، وصرنا ننظر لأنفسنا قبل الآخرين… من فوق.
طيلة أيام هذا الجنون المغربي، كنا نشعر أن أشياء كثيرة تغيرت فينا، أننا صرنا أجمل… وصرنا ألطف. صرنا ابتسامة ترتسم على القلب.
صرنا كبارا، لدرجة أن بدأ الصغار يقذفوننا بالحجر… أخرجنا إلى العلن، حقد بعض صحافة الألمان، وأسوأ ما في الدنمارك، وعنصرية الكثيرين… وفي الوقت نفسه، اكتشفنا صحافة أوروبية وأمريكية وآسوية وعربية وإفريقية ترمينا بكثير حب ووله. صحافة إيطاليا… كانت تخترع لغات عشق غير مسبوق نحونا.
… ولأننا كنا لانزال نحلق مع النصيري في الفضاء، ارتأى بعضهم أن ينزلنا إلى الأرض. أن يجعلنا نرتطم مع القعر الذي يسكنه، والذي تعالينا عليه طيلة أيام الجنون.
يوم فرنسا… كان مختلفا. كنا نحلم بالفوز، وكنا نعرف أننا، في الأصل، انتصرنا. أن كل ما يحدث الآن، هو مجرد تصريف للغات الانتصار الذي صار قريننا، صار مرادفنا.
يومها، لم يكن الحدث مقابلة كرة… كان الحدث، مجموعة كائنات صغيرة، أصرت على أن تعيش مغرب الصغار الذي ألفته. مغرب السيئين الذي أدمنوه… الذي جعل منهم “شناقة” أحلام مغربية، يزايدون بها في الرياضة والسياسة والإعلام…
… دخل “عبدو” ونسرين” والجميلة “جانا” ابنتهم (سيذكر الجميع، أن الصغيرة الخجولة جانا، التي لا تسلم على أحد، عانقتني وارتمت في حضني. هكذا بكامل الحب، دون لغة للشرح). لم يكن يفترض أن يشاهدوا المقابلة معنا يومها. كانوا قد اقتنوا تذاكر السفر ورتبوا أمر تذاكر الملعب، وتوجهوا نحو المطار… ليتفاجؤوا، كما مئات العاشقين لـ “الوليدات”، أن بعض وسخ البلاد، قد قرر تلطيخ الفرح، وأن الرحلات التي كان يفترض أن تحمل المغاربة إلى قطر، تم إلغاؤها. كان في نظرة وصوت عبدو، كثير من انكسار وحسرة. عبدو… ذلك الكائن الذي لا يرى في المغرب شيئا غير الجمال، ذلك الكائن الذي يناقشك في أبسط الانتقادات الممكنة، فقط كي يقول لك، مغربنا اليوم غير الذي كان… عبدو، كان يشعر بالهزيمة، لكنه كان معنا. كان يصر على الفوز على فرنسا. لم ننجح في إقناعه أن الوصول إلى النصف، كان في الأصل انتصارا.
… سأظل عاجزا عن لغة تستطيع لكل هذا الجنون حرفا. انتهت مباراتنا مع فرنسا، فكان المغربي الذي صنعه فينا “الوليدات” يخرج رغما عنا.
يومها… لم نقل إنها هزيمة بطعم نصر. لم نقل كان أداء مشرفا. يومها… بكينا. بكينا كما يبكي مدمن انتصار أمام هزيمة.
بكينا… وكان الدمع أول خيوط الحكاية، حكاية بلد، صار يبكي لأنه بلغ مربع الكبار، ولأنه لم يعد يقبل أن ينظر للآخرين من تحت… صار ينظر لنفسه، وللآخرين، من فوق.
بكينا… بكى الجمهور في الملعب، بكى “الوليدات”، بكت سناء وانفطر قلب كريمة العاجي. شهق كمال ولاذ جاد بالصمت وغضب غالي ووليد… الأطفال، الشباب، كانوا أكثر الغاضبين، وهذا، في النهاية، أجمل النصر… هؤلاء أطفال وشباب، لن يعيشوا مثلنا، لغات التبرير والبحث عن سبب خارجي للهزيمة. هؤلاء مستقبل بلد، لا يؤمن بغير النصر.
… بعد فرنسا، أصبح كل شيء عاديا. لقاء كرواتيا، لأول مرة خارج لغات الجنون، دخلناه وأرجلنا على الأرض. لم نعد نحلق في فضاءات الجنون.
كنا نعرف أن “الوليدات” منهكون. كنا نعرف الحالة الجسدية والأعطاب التي تسكن كل فرد منهم.
دخلنا لقاء كرواتيا بفرح. نحن الذين تعبنا، أُنهكنا، ونحن، فقط، ننتفض مع كل انتصار وفرح، كنا ندرك أن “الوليدات” قد قاتلوا ما يكفي…
في النهاية، رغم كل مفسدي الفرح… نحن في العالم رقم 4. نحن الفرح، نحن “الوليدات”، نحن صرنا شبابا وأطفالا… صرنا مجانين وصرنا جميلين. صرنا رقصة بوفال مع أمه، وشغب زياش مع رفاقه، وخجل أبوخلال أمام العالم، وصرنا دموع بدر بانون وبكاء الخنوس… وصرنا ابتسامة بونو. صرنا كل حرف في كلام الركراكي…
صرنا بلدا، لن يقبل من عزيز أخنوش لغات الإنشاء التي اقترفها حين قال لـ “الوليدات”: “شكرا لأنكم أدخلتم البهجة والسرور على كل المغاربة”. نحن اليوم، نرمي بالجمل الجاهزة عند أول مطرح نفايات، تماما كما ننتظر أن يرمي القضاء، بفضيحة بيع تذاكر المباريات، في أقرب سجن.
… انتهى المونديال، لكن الكائن الذي صرناه، لم ينته. من منا، إلى اليوم، لا يعيد مشاهدة المباريات؟ ضربات الجزاء؟ ترقيص بوفال للإسبان، وجنون زياش، وملاحم أمرابط وسحر أوناحي…؟؟
من منا لم يعد مقصية الياميق على فرنسا؟
من منا لم يعد مشاهدة دموع بانون؟
… انتهى المونديال، ويستمر جنوننا. نحن الذين قضينا كل هذا الوقت مع بعض، ونحن نشاهد المباريات، نعاني اليوم من أعراض مرض جميل… صرنا نبحث عن كل الذرائع الممكنة كي نلتقي، كي نقضي وقتا آخر مع بعض.
صرنا نبحث عن أي سبب، كي نلتقي… كي ننظر في وجوه بعضنا، ونستعيد كل الفرح. نستعيد الكائن الجميل الذي صرناه.
صرنا أجمل… وصرنا ألطف. صرنا ابتسامة ترتسم على القلب.
صرنا بلدا… لا يستحق “شناقة” الأحلام، وباعة التذاكر… ومقترفي لغة الإنشاء والوهم.
صرنا أكبر… فاحذروا غضب الكبار على عبدة على الضآلة!!
- الحلقة الأولى: أيام المونديال: أنا حضرت الحلم
- الحلقة الثانية: أنا حضرت الحلم… يوم بلجيكا في ملعب دار الطيب
- الحلقة الثالثة: أنا حضرت الحلم… ثم هَتَفت: حبيبي زياش!
- الحلقة الرابعة: أنا حضرت الحلم… وابتسم بونو في وجه الإسبان
- الحلقة الخامسة:أنا حضرت الحلم… وجعلنا النصيري سكان الطابق العلوي
الآن أريد العبرة المستفادة🥺