لماذا نسائل المقدس؟ أمة خارج الزمن 1/2
سيكون مُجانبا للصواب اعتبار الشعوب العربية تسير بالتوازي مع حقبتها الزمنية، وتساهم في إنتاج كل مظاهرها الإنسانية والتقنية، كما سيكون مجحِفا اعتبارها تعيش مرتهنة لماضيها الإسلامي، والفكر العقلاني للمعتزلة مُغيب، والمعارضة السياسية للخوارج بدعة، والأسئلة التي طرحها كبار الفلاسفة كابن سينا والفارابي وابن رشد والمعري وغيرهم على التراث لا توجد مثيلاتها في الساحة العربية.
كما سيكون ظلما لعهد الصحابة أن نعتبر هذه الشعوب سلفية النزعة، أثرية الهوى والمشرَب والصحابة كانوا يناقشون دينهم دون تحفظ، ويتكلمون في القرآن ونقد الأحاديث، ويناقشون في مجالسهم مشاكل بيت الزوجية لرسول الإسلام.
قد تُفْهمُ ردة فعل الإسلاميين العنيفة، سواء كانت لفظا وتحريضا على الكراهية، أو فعلا دمويا يودي بحياة المفكرين الناقدين لما يُعتبر منظومة مقدسة، وقد لا تَخفى مبررات الساسة في سن بعض القوانين التي تمنع انتقاد المقدسات، أو تحظر بعض الممارسات التي تحرمها الشرائع الدينية. السبب، بالنسبة للطرفين، مسألة وجودية وشرعية دينية للاستفراد والهيمنة السياسية، فانتقاد المقدس وهدم بعض أركانه التي تكَشَّفَ زيفها وعرَّى نقائصها التطور البشري، هو هدم لشروط وجود الطرفين، ونزع لأنبوب الأوكسجين عن مريض يصارع من أجل البقاء.
لكن الذي لا يمكن فهمه، هو ردة فعل مدعي الحداثة والعصرنة، واعتبارهم مناقشة المقدس مسألة عفا عنها الزمن وأُقبِر النقاش فيها ولا داعي لبعث جثتها نَتِنَة من جديد، وأن المجتمعات قد قطعت أشواطا مهمة على درب التنوير والتحضر، وكل نقاش في خطر الأصولية الدينية هو مضيعة للطاقات والأوقات.
فإلى أي مدى تعتبر هذه المقولات صحيحة؟ وهل يمكن اعتبار المجتمعات العربية مجتمعات قطعت حبل المشيمة الذي كان يغذيها بنوازع التطرف والانغلاق؟
1- نقد المقدس أول العتبات
التموضع التاريخي لشعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مسألة تحتاج لنوع من الدراسة المتأنية للأوضاع السياسية والسوسيو-اقتصادية والمستوى الثقافي والعلمي، لمعرفة التاريخ الحقيقي الذي تعيشه هذه الشعوب، وليس التاريخ الزمني المعاصر. وسيكون مُجانبا للصواب اعتبار الشعوب العربية تسير بالتوازي مع حقبتها الزمنية، وتساهم في إنتاج كل مظاهرها الإنسانية والتقنية، كما سيكون مجحِفا اعتبارها تعيش مرتهنة لماضيها الإسلامي، والفكر العقلاني للمعتزلة مُغيَّب، والمعارضة السياسية للخوارج بدعة، والأسئلة التي طرحها كبار الفلاسفة كابن سينا والفارابي وابن رشد والمعري وغيرهم على التراث لا توجد مثيلاتها في الساحة العربية. كما سيكون ظلما لعهد الصحابة أن نعتبر هذه الشعوب سلفية النزعة، أثرية الهوى والمشرَب والصحابة كانوا يناقشون دينهم دون تحفظ، ويتكلمون في القرآن ونقد الأحاديث، ويناقشون في مجالسهم مشاكل بيت الزوجية لرسول الإسلام.
هذه بعض النماذج من حياة مَن يزعم الأصوليون التأسي بإيمانهم وسلك طريقتهم: عن نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: “لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ قَدْ أَخَذْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَمَا يُدْرِيهِ مَا كُلَّهُ؟ قَدْ ذَهَبَ مِنْهُ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: قَدْ أَخَذْتُ مِنْهُ مَا ظَهْرَ مِنْهُ”. فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام.
“كَانَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود يَحُكّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ مَصَاحِفه، وَيَقُول: إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كِتَاب الله”. أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند.
وفي الصحيحين أن أبا موسى الأشعري حينما روى حديثا عن رسول الله في الاستئذان من صاحب الدار، قال له عمر: والله لتقيمن عليه بينة، وزاد مسلم: وإلا أوجعتك. أمنكم أحد سمعه من النبي؟.
وعندما اشتد كلام الناس في أبي هريرة واتهامه بالإكثار من الرواية قال: “إنَّكُمْ تَقُولونَ: إنَّ أبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الحَدِيثَ عن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَقُولونَ: ما بَالُ المُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ لا يُحَدِّثُونَ عن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمِثْلِ حَديثِ أبِي هُرَيْرَةَ؟! رواه البخاري.
وعن عبد الله بن عباس قال: “اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الخميس فقال ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا هجر رسول الله (اختلط عقله لاشتداد المرض)، قال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه. رواه البخاري.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رجلاً كان يُتهم بأم ولد رسول الله (مارية القبطية)، فقال رسول الله لعلي: (اذهب فاضرب عنقه) رواه مسلم، وفي حديث آخر: “كَثُر (أي الكلام) على مارية أم إبراهيم في قبطيٍّ ابن عم لها، كان يزورها ويختلف إليها.
عن عبد الله بن مسعود قال: “قَسَمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قِسْمَةً كَبَعْضِ ما كانَ يَقْسِمُ، فَقالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: واللَّهِ إنَّهَا لَقِسْمَةٌ ما أُرِيدَ بهَا وجْهُ اللَّهِ، قُلتُ: أمَّا أنَا لَأَقُولَنَّ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأتَيْتُهُ وهو في أصْحَابِهِ فَسَارَرْتُهُ، فَشَقَّ ذلكَ علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَغَيَّرَ وجْهُهُ وغَضِبَ، حتَّى ودِدْتُ أنِّي لَمْ أكُنْ أخْبَرْتُهُ، ثُمَّ قالَ: قدْ أُوذِيَ مُوسَى بأَكْثَرَ مِن ذلكَ فَصَبَرَ”. رواه البخاري.
فمن يجرؤ اليوم على التكلم في القرآن أو الحديث أو نقاش الحياة الاجتماعية للرسول أو اتهام أحد الصحابة أو مراجعة أفعال رسول الإسلام؟
لقراءة الجزء الثاني: لماذا نسائل المقدس؟ نحو التحرر من مغالطات وترقيع الأصوليين 2/2
مقالات قد تهمك:
- العصر الذهبي للدولة الإسلامية… التاريخ الديني 1/4
- العصر الذهبي للدولة الإسلامية… تاريخ الاقتتال السياسي 2/4
- العصر الذهبي للدولة الإسلامية… مجاعات، عبيد ومحاربة العلماء 3/4
- العصر الذهبي للدولة الإسلامية… حين شهد الإمام مالك على فساد العصر 4/4
- حسن الحو: بين العلم والإيمان: نحو منهج علمي لنقد النص المقدس