المساواة والحريات: بين العقل والنص الديني
إن نظرية أزلية القرآن، تنفي التاريخ. لكن تاريخانية المجتمعات الإنسانية، حقيقة لا يمكن تجاهلها. فالمجتمع البدائي الذي عرف نشئة الإسلام، لا علاقة له بالمجتمع الحالي.
ونظرية كفاية القرآن، تتجاهل العقل. لكن قدرة العقل البشري على قراءة واقعه قراءة صحيحة وفعاليته في إيجاد حلول لمشاكله الدنيوية، دون الاستنجاد بنصوص قديمة، أضحى أمرا بديهيا لا يمكن نفيه.
من البداهة، أن يرفض كل فرد من أفراد المجتمع جميع أنواع الميز والحيف في حق النساء. أما العدالة الإلهية، فلا يمكن أن تقر ظلما يطال نصف تعداد البشرية.
نعم! ليس هناك أي سبب معقول، يجعل الله يفضل الرجل على المرأة. إنها تكد وتعمل جنباً لجنب مع الرجل. كما أبانت عن قدرتها لتحمل المسؤوليات ومواجهة الصعوبات. بل إن الإناث تتفوقن في جل أقطار العالم على الذكور في مجال الدراسة. كل هذا يجعلنا نتساءل عن سر وجود نصوص مقدسة واضحة، تقر بأفضلية الرجال على النساء. ويكفي الإشارة إلى الآيات المحكمة التي تمنح للأنثى نصف ميراث الذكر!
نقف هنا أمام تناقض وتصادم بين حقيقتين بديهيتين: الواقع اليومي يصرخ بضرورة إقرار المساواة بين الجنسين والنصوص الدينية تصدح بالتمييز الجنسي. بل هناك أيضاً تناقض ثان لا يقل حدة عن الأول: فحيف تلك النصوص لا يليق، لأن الله حق والحق جوهر الذات الإلهية. لنلخص إذن ونقول إن المعطيات الواقعية لحياتنا اليومية والعدالة الإلهية يؤيدان المساواة بين شتى أنواع البشر. أما النصوص الدينية، فتعيقها وتقف ضدها.
هنا يستوجب علينا مساءلة تلك النصوص وامتحان مصداقيتها، لأنها تعتبر أضعف طرف في إشكالية ثلاثية، طرفاها الأول والثاني لا يقبلان المساءلة: واقع ملموس وعدالة إلهية!
قبل بروز الحداثة وقيمها، كانت كل المجتمعات الإنسانية محافظة. سواء كانت تلك المجتمعات آسيوية أو أوروبية. فكان الإنسان يحن إلى الأسلاف ويبجل ماضيه ويلخص التجديد ولا يُقدر إلا القديم. كان العالم الإسلامي بدوره محافظا كبقية المجتمعات. بل إن الفكر المحافظ، وجد في الإسلام سنداً لم يجده في الثقافات الأخرى. كيف لا وقد وجدت النخب المحافظة في نص القرآن، شريعة مسطرة ومرصوصة من طرف الإله نفسه؟ والتتمة تعرفونها جميعاً! لقد حللوا وركبوا الآيات والأحاديث النبوية، لاستنتاج جميع القوانين الممكنة لتأطير وتدجين المؤمنين عامةً.
لقد حاول المسلمون، منذ القرن التاسع عشر، معالجة الطابع “القديم” والمعادي لقيم الحداثة في التراث الإسلامي بإعادة تأويل بعض النصوص بغية تقزيم الجانب الظلامي فيها وإبراز نصوص أخرى، أكثر انسجاماً مع المبادئ العصرية كحرية العقيدة والمساواة وحقوق الإنسان. لكن عمل هؤلاء الإصلاحيين دون جدوى! ففي كل سنة وفي كل بؤرة من بؤر العالم الإسلامي، سيبرز شيخ من الشيوخ ليردد نفس القراءة السلفية للتراث. قراءة تبخس العقل وتتجاهل القيم الإنسانية. فسورة مثل سورة التوبة، تزخر بآيات عديدة، تمثل ذخيرة قيمة لكل المتطرفين وسندا لكل الخطابات الظلامية.
محاولات الإصلاح من الداخل، عن طريق إعادة قراءة التراث، أوصلتنا إلى طريق مسدود. حان الوقت لوضع التراث جانباً والبحث عن “القول الأصلي”. تلك الكلمة المستوحاة والتي كانت تنزل على الرسول “تحت الطلب”!
يكفي الاطلاع على السيرة النبوية للإمام الطبري، للتأكد أن الرسول ما كان يطلب من الصحابة انتظار وحي إلهي، إِلَّا عندما كانوا يعجزون على الاتفاق على حل وضعي لإشكالية ما. ويكفي قراءة سورة البقرة لمعاينة كثرة الآيات التي كانت بمثابة أجوبة خاصة عن أسئلة حينية. بل إن وجود باب قائم بذاته في علوم الدين، ينشغل بأسباب النزول، لدليل كاف أن الوحي الإلهي كان يتفاعل بشكل ظرفي مع الواقع المعاش ولم يكن ينبني عن مشروع دستور مسبق ومحدد قبل بداية الوحي! لكن رجال الدين كان لهم رأي آخر. لقد جردوا الآيات من أسباب نزولها واعتبروها أحكاما مطلقة، ودونوها بعجالة وبطريقة غريبة لا تحترم الترتيب الزمني لنزولها. وقد قاموا بتقديس المصحف، فور صياغته، لمنع أي مسائلة لمنتوجهم. ولقد تعاملوا بنفس المنهج مع الأحاديث والسيرة النبوية؛ فحولوا، بالتالي، حوارات عابرة إلى كتابات راسخة كالنقش على الرخام. أما في القرن الثالث والرابع الهجري، فالأشياء ستتفاقم أكثر عندما نجح التقليديون في فرض “أزلية وكفاية” القرآن.
نعم لقد نجح أتباع ابن حنبل في جعل مصحف عثمان كلام الله وكلام الله مصحف عثمان.
وبجعل ما نتج من انتقاء وإقصاء في عملية جمع المصحف العثماني، يعادل صفة من صفات الذات الإلهية، نجح التقليديون في إنتاج دستور مطلق وأزلي، صالح “بالضرورة” لجميع الأزمنة والأمكنة. نلخص هذه الحقيقة المصطنعة في نعت “أزلية” القرآن. أما كفايته، فهي “حقيقة” ثانية صاغها الإمام الشافعي عندما أقر في رسالته، أن كل أسئلة المسلمين، في الحاضر والمستقبل، لها جوابها في القرآن.
كفاية وأزلية القرآن تتناقضان مع حقيقة تاريخه وواقع جمعه. فالوحي استغرق قرابة عقدين، كان يجيب فيها عن أسئلة المسلمين تارة وينذرهم ببعض الأخطاء المرتكبة تارة أخرى. كان ملتحما مع أوضاع الأمة المحمدية وتقلباتها العديدة. وخير دليل على ملازمة الوحي لتحولات المجتمع الناشئ، هو وجود آيات متأخرة تقول عكس ما قالته آيات قديمة. وإشكالية النسخ هذه، تضع “حقيقة” التقليديين، أي اعتبار المصحف العثماني بمثابة كلام الله، في وضعية صعبة، لأن كلام الله لا يمكن أن يتناقض مع ذاته. لا يمكن أن يكون مطلقا وأزليا ومتناقضا في آن واحد!
إن نظرية أزلية القرآن، تنفي التاريخ. لكن تاريخانية المجتمعات الإنسانية، حقيقة لا يمكن تجاهلها. فالمجتمع البدائي الذي عرف نشأة الإسلام، لا علاقة له بالمجتمع الحالي.
ونظرية كفاية القرآن، تتجاهل العقل. لكن قدرة العقل البشري على قراءة واقعه قراءة صحيحة وفعاليته في إيجاد حلول لمشاكله الدنيوية، دون الاستنجاد بنصوص قديمة، أضحى أمرا بديهيا لا يمكن نفيه.
لا يزال المجتمع الإسلامي رهين نصوص بالية. نصوص تُقيد مستقبله وتفرض عليه الجمود الأزلي. أصبح المجتمع الإسلامي، المجتمع الوحيد على وجه الأرض، الذي يعجز عن تبني القيم الحداثية، خشية مخالقة النصوص المقدسة. إذا أردنا حل معضلة الحريات الفردية ومشكلة المساواة بين الرجل والمرأة، وجب علينا رفع تلك القدسية المصطنعة، ووصف تلك النصوص بالوصف اللائق بها: آثار نسبية لعلاقات شفهية بين خالق وعباده. آثار مجازية تؤكد القيم الأخلاقية وتنادي بالتآزر والرحمة بين المؤمنين.
آثار لا تطيق التعسف الذي طالها من رجال الدين، الذين حولوها غصباً إلى قوانين إيجابية وجامدة.
مواضيع قد تثير اهتمامك
- Marayana TV: حسين الوادعي: هل القرآن كلام الله وهل أحكامه خالدة وهل تم جمع القرآن كاملا؟
- المأمون و”محنة خلق القرآن”… صورة عباسية أخرى لاستغلال الديني في السياسي! 2/1
- حرية المرأة بين “الجاهلية” والإسلام: وضعية المرأة في ما يسمى بـ “الجاهلية”
- محمد عبد الوهاب رفيقي: الحرية بين دعاوى الإسلاميين وحاجيات الدولة الحديثة
- حسن الحو: بين العلم والإيمان: نحو منهج علمي لنقد النص المقدس
قد تكسب بعض الفتات بهكذا مقالات، لكنك لن تنال من القرآن إلا كما تنال العنزة الجرباء من الجبل الاشم. غير اقطع ياسك واطمئن.