من فرنسا، وسام الناصر يكتب: Paroles paroles… أزمة ثقة تعصف بالمجتمع الفرنسي
في لوحة تلخّص عموم المشهد الفرنسي هذه الأيام، تستعيدُ مغنية فرنسية شابة كلمات الأغنية الإيطالية الأصل “Paroles paroles”، والتي أطربت فيها الراحلة “داليدا” بالاشتراك مع “آلان ديلون” الملايين حول العالم. …
في لوحة تلخّص عموم المشهد الفرنسي هذه الأيام، تستعيدُ مغنية فرنسية شابة كلمات الأغنية الإيطالية الأصل “Paroles paroles”، والتي أطربت فيها الراحلة “داليدا” بالاشتراك مع “آلان ديلون” الملايين حول العالم. لكن، لا يجمع المشهد السوريالي هذه المرة العاشقَ المخادع بحبيبته التي اكتشفت أخيراً أنه لا يقدم لها سوى الكلمات الساحرة والوعود الخلابة؛ إنما هو حوارٌ بين هذه الفتاة، التي تجسّد غضب الملايين من عنجهية “الطبقة” السياسية، ورئيس الدولة “إمانويل ماكرون”. تأخد المغنية مقاطعاً من خطابات الرئيس ووعوده وترد عليه[1] قائلة:
“… دائماً كلمات، نفس الكلمات، لا شيء سوى كلمات، كلمات ساحرة، كلمات تكتيكيّة… ولكنها كاذبة… إنك لا تتوقف حتى تعاود الكرّة من جديد… كلمات، كلمات”.
يتردد صدى هذا المقطع المصور حديثاً يترددُ صداه على حناجر محتجي “السترات الصفراء” منذ بداية تحركاتهم التي اندلعت منذ منتصف شهر نونبر \ تشرين الثاني 2018.
تقطعت خيوط الثقة بين شعب خَبِرَ الخطابات الحزبية الرنانة، وألِفَ الوعود والبرامج السياسيّة الخلابة، وطبقةٍ سياسيّةٍ استمرأت الكذب وأتقنت الحركات البهلوانيّة
فتحتْ هذه الاحتجاجات البابَ واسعاً أمام نقاشاتٍ متنوعةٍ وغنية. حوّلت البلد بطولها وعرضها، بحيّزها الواقعيّ والافتراضيّ، إلى ساحةٍ لتبادل الآراء والخوض في مختلف القضايا الراهنة. وقد كشفتْ هذه النقاشات على اختلاف مريديها، عن أزمة ثقةٍ عميقةٍ بين المحكومين والحاكمين، بين الشعب بشرائحه المختلفة والطبقة السياسية التي تسيّر أمور البلاد.
هناك انطباع عام بأن هذه الطبقة لم تعد تخدم مصالح الشعب، وخاصة شرائحه الأشد فقراً، بل إنها تتحرك في ضوء تشابك مصالح أطرافها المختلفة. هذا الأمر ليس بجديد؛ بل يعرفه جيداً معظم الفاعلين في الشأن العام، وتحديداً الرئيس “ماكرون” الذي حسم الانتخابات في عام 2017 نتيجة ترهل منافسيه في الأحزاب التقليدية وتضاؤل أسهمهم الشعبية.
اقرأ لنفس الكاتب: من الجنوب الفرنسي، وسام الناصر يكتب: يوم برفقة “السترات الصفراء”
أرخت أزمة الثقة هذه بظلالها على آلية تلقي المحتجين لمقترحات الحكومة و”الإليزيه”، التي بات يُنظر إليها بكثيرٍ من الريبة والشك. فلسان حالِ السترات الصفراء يتساءل باستمرارٍ عن مصادر الأموال التي ستغطي مصاريف الإجراءات الإسعافية، غير المخطط لها مسبقاً، والتي تقدر ب 12 مليار يورو : “ألن يستردوها من جيوبنا سريعاَ بطريقة أو بأخرى؟ ألن نوفيها على شكل ضرائب جديدة”.
إذن، تقطعت خيوط الثقة بين شعب خَبِرَ الخطابات الحزبية الرنانة، وألِفَ الوعود والبرامج السياسيّة الخلابة، وطبقةٍ سياسيّةٍ استمرأت الكذب وأتقنت الحركات البهلوانيّة.
هناك انطباع عام بأن هذه الطبقة لم تعد تخدم مصالح الشعب، وخاصة شرائحه الأشد فقراً، بل إنها تتحرك في ضوء تشابك مصالح أطرافها المختلفة
انعكس هذا الأمر على خيار الحركة الاحتجاجيّة بتقديم نفسها على شكل حركةٍ شعبيّةٍ “لا سياسيّة”، وذلك بالإصرار على تمايزها وابتعادها عن الأحزاب والنقابات التقليديّة السائدة. أربك هذا الشكل المتمرد للحركة الاحتجاجيّة صانعَ القرار الفرنسي، وجعله في حيرةٍ من أمره. فغياب هياكلٍ تأطيريّةٍ واضحة وقيادةٍ تمثيليّةٍ منسجمة، أفلتَ العنانَ لارتفاع سقف المطالب بسرعةٍ قياسيّة، أضحى معها صانع القرار لاهثاً يتلمس اللحاق بها.
اقرأ لنفس الكاتب: يوم مع السترات الصفراء: هل نحن أمام ثورة فرنسية جديدة؟
حملَ هذا الشكل الجديد للاحتجاجات الشعبية في فرنسا عوامل قوة كامنة أثبتت نجاعتها وفاعليتها حتى الآن. ذلك لأن الحركة اختارت تعريف نفسها وتحديد إطارها العام منذ انطلاقتها، بطريقة مفتوحة. بمعنى آخر، تركت الباب مفتوحاًّ ليستوعب كلَّ من أرادً الالتحاق بها. فهي حركة شعبية مفتوحة لجميع المواطنين الفرنسيين المتضررين من السياسات الليبرالية الفجّة.
مفتوحة، ليس فقط أمام الشرائح الفقيرة، وإنما تمتد لتستوعب متوسطي الدخل وأصحاب الحرف والمهن المختلفة والمتقاعدين والمتعهدين الصغار، وغيرهم. هي أيضا، وإن كانت تعلن بأنها حركة لا سياسية، إلا أنها لم تضع أي “فيتو” على مشاركة أي من أحزاب المعارضة في فعالياتها المتنوعة. ومن مكر السياسة أن نرى أحزاباً يساريةً جنباَ إلى جنب مع اليمين المتطرف في مظاهرة واحدة.
أنهكت الاحتجاجات الاقتصاد الفرنسي المأزوم أصلاً، و تسببت بخسائرٍ تجازوت 4 مليار يورو خلال الخمسة أسابيع الماضية، ومن المتوقع تضاعف هذا الرقم إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن شهر ديسمبر \ كانون الأول هو شهر التسوق الذهبي، الذي تحققُ خلاله بعض الشركات أكثر من نصف مبيعاتها السنويّة
هي كذلك حركة غير محددة المطالب واللائحة الطويلة المقترحة تتيح لكل مواطن فرنسي أن يجد ضالته في بعض منها. وهي أخيراً حركة غير منضبطة من حيث أشكال الاحتجاج وتترك المجال واسعاً للمبادرات الذاتية، التي تتنوع وتختلف بين المدن الكبرى والبلدات الصغيرة. فمن المظاهرات الكبرى في أيام السبت، أو عرقلة الطرق الدولية وفتح معابرها مجاناَ للمارة، إلى العمليات السريعة التي تستهدف إغلاق مصافي النفط أو مراكز التوزيع الضخمة التابعة للشركات متعددة الجنسية ك” أمازون” “كارفور” و غيرها. كلُّ ما ذُكر سابقا،ً يعزز احتمال توسّع نطاق الجذب المغناطيسي للحركة، لتلتحق في فلكه -أو حتى تستغله- قوى وتيارات متعددة.
اقرأ لنفس الكاتب: السترات الصفراء: الفرنسيون غاضبون… يتضامنون… يحتجون
يبرزُ من بين المطالب ال 42 التي بلورتها السترات الصفراء ذلك الذي يدعو إلى إقرار الاستفتاء بمبادرة شعبية، ويتربع هذا الأخير على رأس هرم المقترحات التي تحظى بقبول معظم المجموعات المنتفضة. فهو يعبرُ عن روح الحركة الاحتجاجية التي تلتمس تعزيز المشاركة الشعبيّة في آليات صنع السياسات العامة و إقرارها. وقد اشتمل هذا المقترح على إنشاء موقع الكتروني تشرف عليه جهة مستقلة، بحيث يستطيع المواطنون من خلاله تقديم مقترح لمشروع قانون، وعندها ستكون الجمعية الوطنية مجبرةً على مناقشة هذا المشروع و طرحه للاستفتاء الشعبي، في حال حصوله على 700 ألف توقيع[2].
يتقاطع هذا المقترح مع طروحات بعض القوى المعارضة في أقصى اليسار كما في أقصى اليمين، والتي تحاول جاهدةً وبحذرٍ شديد، استغلال اللحظة الراهنة لتحقيق أوسع مكتسبات حزبيّة ممكنة.
أنهكت الاحتجاجات الاقتصاد الفرنسي المأزوم أصلاً، و تسببت بخسائرٍ تجازوت 4 مليار يورو خلال الخمسة أسابيع الماضية، ومن المتوقع تضاعف هذا الرقم إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن شهر ديسمبر \ كانون الأول هو شهر التسوق الذهبي، الذي تحققُ خلاله بعض الشركات أكثر من نصف مبيعاتها السنويّة. كما أنهكت الاحتجاجات أيضاً القوى الأمنيّة المتأهبة طوال هذه الفترة في كامل الأراضي الفرنسية.
لا تزال السترات الصفراء ماضيةً في التحضيرِ للجولةِ السادسة من المظاهرات يوم السبت القادم 22 ديسمبر \ كانون الأول، حيث لم تعد تغويها كلمات العاشق المعسولة ولا هداياه من شوكولاه وكراميل، فهل انتهى “زمن الأحلام” وحانت لحظة الفراق، كما غنت الراحلة “داليدا” ؟
[1] يمكن الاطلاع على الأغنية على هذا الرابط.
[2] في هذا السياق، هناك مبادرات أخرى تنشرها بعض المجموعات المحتجة في صفحاتها على الفيسبوك، و تقترح آليات للاستفتاء الشعبي بهدف الغاء قانون ما أو حجب الثقة عن أحد الممثلين المنتخبين. انظر على سبيل المثال صفحة “Référendum d’Initiative Citoyenne des Gilets Jaunes على هذا الرابط.