نكبة 48: حين تفجر أدب المُقاومة
شكل أدب المُقاومة ركيزة أساسية في الحفاظ على الذات الفلسطينية، الذات التي تعرضت لكل أشكال الطَّمس والتشويه، بفعل سعي الكيان الصهيوني إلى تجريد الفلسطينيين من هويتهم الحَضارية، وتقديم فلسطين على أنها أرض دُون تاريخ.
لأجل ذلك، نجد أغلب الأدباء الفلسطيين، يصورون كُل الأمكنة والقُرى والطبيعة… كما لو ينقشوا على الورق، حكايات أرض تنتظر عودة شعبها.
المأساة الإنسانية التي عاشها الشعب الفلسطيني جراء نكبة 48، وما خلفته من تهجير، وهدم لمعظم معالم المُجتمع الفلسطيني السياسي والاقتصادي، والحضاري – الثقافي، أسهمت في بناء الوعي الجمعي، وإرساء معالم الذاكرة الفلسطينية.
ذاكرة جسدها الفلسطينيون بأشكال متنوعة، كان للأدب نصيب منها.
لم تكُن النكبة مُجرد حدث تاريخي مأساوي، بل كان له الأثر في حُدوث تحولات عرفتها الساحة الأدبية، سواء من حيث الشّكل، من خلال ظهُور شكل شعري جديد هو: الشعر الحُّر الذي منح للأديب حُرية أكبر في التعبير، بعيدا عَن القالب التقليدي، أو من حيث المَضمون، على مُستوى إضفاء الطابع الإيديولوجي على الأدب.
لقد أغرق النُّقاد العرب في مُقاربة النص الأدبي من زاوية الفنية والجمالية. على أن الأديب نفسَهُ، كان يتوسل بالآليات اللغوية من أجل إنتاج أدب يأسر العواطف.
غير أن ظهُور أدب المقاومة، سيشكل نقطة تحول في المسار الأدبي، وسيُعلَنُ عن ميلاد نوع أدبي جديد في الثقافة العربية: الأدب المُلتزم.
من هنا سيتجسد قول ميخائيل باختين: الأدبُ مُنتج للإيديولوجيا.
أدب المُقاومة قرينُ الوعي الملازم للأديب، في تأريخ القضايا الوطنية، والدفاع عن الإنسان. إنه شكل من أشكال المقاومة الثقافية.
“النكبة قدمت مادة واقعية غنية، شغلت بمآسيها وويلاتها وأهوالها، الضميرَ العربي؛ فانطلقت الصرخة من أعماقه، داعية إلى مطاوعة الأدب الحديث لواقع الأمة، ليكون هدفا صادقا حيا، ويكون الأديب صاحب رسالة، يستقي منها، ليملأ مضمونه الشعري أو النثري منها، لا من ذاكرته ومحفوظاته، ولا من خياله. فيربط بذلك بين إنتاجه والحياة الإجتماعية التي يحياها”. [1]
يُعد غسان كنفاني أول من قدم مُصطلح (أدب المقاومة) في الساحة الثقافية العربية، من خلال كتابه: “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 – 1968“، حيث تناول فيه، إرهاصات ظهور أدب المُقاومة، وقدم تجميعا لأهم النماذج الأدبية التي تدخُل ضمن هذا النوع الأدبي.
لا يُفرق غسان كنفاني بين المقاومة المسلحة، وبين أدب المقاومة. في ذلك يقول: “ومن هنا، فإن الشكل الثقافي في المُقاومة يطرحُ أهمية قصوى ليست أبدا أقل قيمة من المُقاومة المسلحة ذاتها. وبالتالي، فإن رصدَها واستقصاءها وكشف أعماقها تظل ضرورة لا غنى عنها لفهم الأرض التي ترتكز عليها بنادق الكفاح المُسلح“.[2]
أنسنة القضية الفلسطينية… هدفُ أدب المُقاومة
إنه نقل للأحاسيس التي يشعر بها الفلسطيني، تجاه الأرض، التعبير عن آلام التهجير وتداعيات المنفى، وهو ما يُجسده محمود درويش في أشعاره:
الأرضُ أم أنت عندي
أم أنتما توأمان
من مد للشمس زَندي
الأرض، أم مُقلتان؟
سيان، سيان عندي
إذا خسرتُ الصديقه
فقدتُ طعم السنابل
وإن خسرت الحديقه
ضيعت عطرَ الجداول
وضاع حُلم الحقيقة
عن الورود أدافع
شوقا إلى شفتيك
وعن تراب الشوارع
خوفا على قدميك
وعن دفاعي، أدافع
لا تخرُج الرواية الفلسطينية أيضا عن هذا التصوير: سرد لواقع التشتت والتهجير، كما هوَ الأمر في رواية: (عائد إلى حيفا) لغسان كنفاني، (بيت للرجم بيت للصلاة) لأحمد شاهين.
شكل أدب المُقاومة ركيزة أساسية في الحفاظ على الذات الفلسطينية، الذات التي تعرضت لكل أشكال الطَّمس والتشويه، بفعل سعي الكيان الصهيوني إلى تجريد الفلسطينيين من هويتهم الحَضارية، وتقديم فلسطين على أنها أرض دُون تاريخ.
لأجل ذلك، نجد أغلب الأدباء الفلسطيين، يصورون كُل الأمكنة والقُرى والطبيعة، “ومن أكثر الروائيين الذين تتميز رواياتهم بالتركيز على المكان، الروائي “إميل حبيبي“، حيث نجد أن المكان لديه ممتد ومرسومة ملامحه، ليستوعب كل أرض فلسطين: مدنها وقراها وعيونها وطرقها وجبالها وسهولها، وكل ما تحوي تلك الأماكن من بشر وشجر وماء وقنن وخمائل وبيارات، حتى يمكننا اعتمادًا على رواية (المتشائل) أكثر من غيرها أن نستخلص تقويمًا جغرافيًا تاريخيًا لفلسطين، ففي هذه الرواية يورد عددًا من أسماء القرى التي هدمها الاحتلال وشرد أهلها بكل وحشية وقسوة، وذلك حين التقى الراوي بالأشباح الهائمة في فناء مسجد الجزار بعكا، انهالت عليه الأسئلة المتشابهة، “نحن من الكويكات التي هدموها وشردوا أهلها…، أنا من المنشية، لم يبق فيها حجر على حجر سوى القبور، نحن هنا من عمقا ولقد حرثوها ودلقوا زيتها… نحن هنا من البروة، لقد طردونا وهدموها”.[3]
غير أن أدب المُقاومة، لم يَكن مجرد أدب معاناة – إن صح القول –، بل كان أيضا، كما عبر عنه غسان كنفاني: “يمثل صرخة شجاعة، استطاع في فترة مبكرة الربط بين البعدين السياسي – الإجتماعي، والربط بين قضية مقاومة المحتل الاسرائيلي، وقضايا التمرد في البلاد العربية والعالم، المعبر عن الذات (الواعية بهويتها) و(المتطلعة إلى الحرية) في مواجهة الآخر العُدواني”.[4]
يقول الشاعر الفلسطيني فوزي الأسمر:
عزَّت معاقلنا
مشحونة بالحقد يغلي في مراجلنا
وبطولة كالورد
تعبقُ في خمائلنا
ومضت قوافلنا
للمجد وراها فخار من مناهلنا
تروي عن الأرض الخصيبة
بالدماء
وعن الكرامة والإباء
قصصا تضوع على منازلنا
نصرا بلاد المجد
قلب المجد تأويه منازلنا
نصرا بلاد الله
روح الله في دمنا
الحقد،
حتى تنجلي في الآفاق عن شمس
تعانقها مشاعلنا
في الدم ثورتي وتوثُّبي
… أسهم أدبُ المقاومة في إحياء الذاكرة الفلسطينية، وتأريخ ثقافتها، ضد الحبر الملوث الذي ذهب إلى تزييف وقائع التاريخ والجُغرافيا.
[1] – صالح الأشتر: في شعر النكبة، مطبعة جامعة دمشق 1960.
[2] – غسان كنفاني: الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 – 1968، دار الوطن للطبع والنشر.
[3] – أدب النكبة… أدب المُقاومة، مجلة نون بوست 2014.
[4] – غسان كنفاني، المرجع السابق.
مقالات قد تثير اهتمامك:
- في الذكرى الـ39 لمجزرة صبرا وشتيلا… مرايانا تنبش في أكثر الجرائم بشاعة في القرن العشرين… 1\2
- في الذكرى الـ39 لمجزرة صبرا وشتيلا… جريمة ضد الإنسانية لم تطوها السنوات! 2\2
- إدوارد سعيد: أشحذ أصوات القضية الفلسطينية… المثقف الذي فك أزرار الاستشراق!
- الإبادة الثقافية: الفظاعة الناعمة للبشرية! 2/1
- أكثر صور الإبادة الثقافية انتشارا ومطالب دولية بتجريمها 2\2
- التطبيع… عودةٌ إلى حالة طبيعية أم تطويع وقسر على الاعتياد؟ 3/1
- التطبيع مستوياتٌ… أخطرها الثقافيّ! 3/2
- ناجي العلي… “حنظلةٌ” في فمّ الاحتِلال الصهيوني والدّيكتاتُوريات العربية…
- أحمد مطر: فيلرمِ السّلطةَ… من كان بيتُه من شِعر!