القسوة: كيف يستطيع الإنسان أن يرتكب الفظاعات؟ 1/3
عندما نفكر في القسوة، نستحضر في العادة الأفعال الخبيثة والشريرة؛ من يرتكبون سلسلة من الجرائم دون وازع مثلا.
بالنسبة لمعظمنا، من الصعب أو المستحيل تخيل شعور الإنسان وهو يرتكب مثل هذه الجرائم ضد أمثاله.
مع ذلك، ما نسميه انحرافا أو سوء تصرف… قد لا يصفه آخرون كذلك!
ذاعت في الآونة الأخيرة أخبار قتل الأطفال واغتصابهم، وعاد معها سؤال: كيف يستطيع الإنسان أن يرتكب الفظاعات؟
سؤالٌ مُحيّر… فمن يرتكب الفظاعات تلك، إنسان؛ مثلي ومثلك!
في كتابها “القسوة… شرور الإنسان والعقل البشري”[1] (2009)، تُقارب الكاتبة البريطانية كاثلين تايلور ظاهرة القسوة علميا، باعتبارها واحدة من أكبر المشكلات في المجتمعات الإنسانية.
الكاتبة حاولت، على مدى أكثر من خمسمائة صفحة، اكتشاف آلية اتخاذ القرار في عقول البشر، قبل فعل القسوة وارتكاب الجرائم.
تفترض في ذلك أننا… لو استطعنا فهم لماذا يرتكب الناس الجرائم الفظيعة، فقد نستطيع منعها.
… في هذا الملف، نتعقب بعض أبرز الأفكار التي حملها الكتاب على أمل إيجاد إجابة لسؤال: كيف يستطيع الإنسان أن يأتي أشياء فظيعة؟
لمفردة “قسوة” أصول قديمة؛ يُعتقد أنها مشتقة من الكلمة اللاتينية “Crudelitas”.
يبدو ذلك متسقا، لأن واحدة من أكثر نماذج القسوة تأثيرا في التاريخ، تلك التي نشأت في روما. الإمبراطور نيرون، مثلا، كان يستعمل الناس كمشاعل بشرية لإضاءة حدائقه.
لكن القسوة، كفعل، كانت موجود قبل ذلك بكل تأكيد.
بالمناسبة، قد يسخر الملحد من فكرة الإله الرحيم، إذا فكّر في كل الأسباب التي تسبب موت وفناء البشر. لكن، ربما عليه أن يتريث قليلا، فما يبتكره الإنسان من مصائب… يفوق ما تسببه له الطبيعة.
الفاعل لا يستخدم كلمة “قاس”، إنما الضحية أو طرف ثالث، حتى يُدين هذا السلوك وينتقدَ الفاعلَ المُذنب أخلاقيا. الطرف الثالث ذاك، غالبا ما يرى الأمور بصورة مختلفة تماما. أما الضحايا فيفسرون أفعال المجرمين بأنها قاسية وتستحق الإدانة وفق مبادئ الأخلاق.
عندما نفكر في القسوة، نستحضر في العادة الأفعال الخبيثة والشريرة؛ من يرتكبون سلسلة من الجرائم دون وازع مثلا.
بالنسبة لمعظمنا، من الصعب أو المستحيل تخيل شعور الإنسان وهو يرتكب مثل هذه الجرائم ضد أمثاله.
مع ذلك، ما نسميه انحرافا أو سوء تصرف… قد لا يصفه آخرون كذلك!
كيف نحدد الفعل القاسي؟
ما الذي نقصده بوصف شخص أو فعل ما بـ”القاسي”؟ ترى كاثلين أن العوامل الرئيسية في تحديد ذلك تتمركز في محورين.
الأول يخص الفاعل: دوافع مرتكب الجريمة وسلوكه (يتسم هذا السلوك بكونه غير مبرر. يراعي مصلحة طرف واحد فقط. فعل ذاتي إرادي. فعل مدبر عن قصد).
أما الثاني فيخص تقدير حالة الضحية (بريء. لا يستحق الأذى. تحمل تجربة المعاناة).
تُضيف الكاتبة عاملا ثالثا يتعلق بمن يشاهد الجريمة ويتصدى لإصدار الحكم الأخلاقي عليها.
بدمج كل هذه العوامل، تصل إلى أن تعريف القسوة كالتالي: “سلوك ذاتي غير مبرر، ومتعمد، كي يسبب معاناة وألما لضحية أو ضحايا لا يستحقون ذلك”.
حتى لا يلتبس المفهوم…
هناك أيضا تعريفات أخرى تتصدى لحالات مختلفة من القسوة!
فمثلا، لو أن الضحية تستحق ما يجري لها، سنعتبر الفاعل منفذا لـ”عقاب”. أيضا لو لم ينشأ عن القسوة ألم ومعاناة، بل خلاف ذلك استلذتها الضحية، فإن هذه الحالة مرضية تعرف بـ”المازوشية”.
في حالة أخرى قد يحدث الألم والمعاناة كذلك عرضا دون قصد؛ نتيجة إهمال أو لامبالاة، لا بدافع القسوة… إلخ.
القسوة ليست شأنا يخص المجانين أو من يولد شريرا بالفطرة؛ بل من الأرجح أن كثيرا من السلوك الذي يتسم بالقسوة سلوك منطقي نابع من العقل… أي أنه يُرتكب لأسباب تبدو وجيهة وسليمة في رأي مرتكبها وقت الفعل.
من الواضح إذن أن القسوة ترتبط بمفاهيم أخلاقية أخرى مثل العقاب، مبررات الفعل، المسؤولية تجاه الآخرين.
اعتبار القسوة سلوكا غير مبرر يسبب المعاناة لمن لا يستحقها يؤكد، وفقا للكاتبة، أنه يُمكن تفسير الدوافع من طرف مرتكب الفعل، من يشاهده، والضحية التي يقع عليها.
لنلاحظ هنا أنه ثمة اختلاف كبير، فالفاعل لا يستخدم كلمة “قاس”، إنما الضحية أو طرف ثالث، حتى يُدين هذا السلوك وينتقدَ الفاعلَ المُذنب أخلاقيا.
الطرف الثالث ذاك، غالبا ما يرى الأمور بصورة مختلفة تماما. أما الضحايا فيفسرون أفعال المجرمين بأنها قاسية وتستحق الإدانة وفق مبادئ الأخلاق. في حين يرى المجرمون أثر أفعالهم في الضحية كضرورة أوجدها حظهم العاثر، أو بها منفعة… وغيره.
التقييم إذن دائما ما يعيدنا إلى عالم الأخلاقيات. بمعنى أن الضرر الواقع على الضحية ينبغي أن يُقيّمَ على نحو محايد عاطفيا، كما يَلزم أيضا تقييم عدوان المجرم بمعايير علمية.
سلوكٌ واعٍ ومتعمد
يتبنى الباحثون في هذا المجال ادعاءان؛ يبدو أن المجتمع يغض الطرف عنهما بحسب الكاتبة.
الأول أن القسوة ليست شأنا يخص المجانين أو من يولد شريرا بالفطرة؛ بل من الأرجح أن كثيرا من السلوك الذي يتسم بالقسوة سلوك منطقي نابع من العقل.
… أي أنه يُرتكب لأسباب تبدو وجيهة وسليمة في رأي مرتكبها وقت الفعل.
حتى في الحالات بالغة القسوة، يدرك من يأتيها تماما ما يقوم به. بعض منهم، حتى عندما تسنح له الفرصة في إعادة التفكير، يتمسك بشدة بالأسباب التي دفعته إلى هذا الفعل.
مثلا، عندما يقع الإيذاء العنيف واللامنطقي في جرائم القتل التي يرتكبها مختلون عقليا، ثم نفكر فيما فعلوه، نستبعد وصفهم بـ”القساة”… لأن منطقهم مشوش ومضطرب.
القسوة إذن… تنطوي على التعمد والاختيار الحر والمسؤولية الأخلاقية لدى الفاعل.
أما الادعاء الثاني، فأن الفرق والاختلاف بين من يطلق الإهانات اللفظية في وجه أحد المهاجرين، ومن يضرب مهاجرا حتى الموت، هو اختلاف في درجة الإيذاء وليس اختلافا في نوع القسوة.
السؤال الآن… لماذا توجد القسوة؟ ثم يتشعب إلى أسئلة فرعية أخرى مثل ما الذي يُذكيها لدى الإنسان؟ وكيف يصل به الأمر إلى ارتكابها؟
… ذاك ما نطالعه في الجزء الثاني.
[1] ترجمة: فردوس عبد الحميد البهنساوي (2014).
لقراءة الجزء الثاني: القسوة: بين المجرم السفّاح وطفل يُلقي بالكتاكيت في النار…
لقراءة الجزء الثالث: القسوة: هل يمكن الحد من الجرائم الفظيعة ودون عقوبات قاسية؟