مواقع التواصل الاجتماعي… مسخ هوية الإنسان وكبح مقاومته للديكتاتورية الرقمية 2/2
واهمٌ من يعتقد أن نجاح الشركات العملاقة لوادي السيليكون، والمدبرة لمعظم مواقع التواصل الاجتماعي، مرتبط فقط بالاعتماد على خبرات أدمغة العالم الرقمي، بل… هي تلجأ دائما للعلوم الإنسانية، من أجل التأكد من ديمومة ارتباط المستهلك بخدماتها.
بعدما تابعنا في الجزء الأول، تجليات خطر الثورة التكنولوجية على الحياة الشخصية للإنسان، وقيم الديمقراطية حسب مضامين كتاب ”الإنسان العاري: الديكتاتورية الخفية للعالم الرقمي”، نواصل اقتفاء أثر وطأة العالم الرقمي على هوية الإنسان، ونسائل إمكانية انعتاقه من هذا الخضوع غير المعلن.
الهوية الرقمية… هل صار للإنسانِ شبيهٌ على الأنترنت؟
“يعدّ نومنا بالنسبة للشركات الرقمية الكبرى وقتاً ميتاً”، تختزل هذه العبارة لكاتبي ”الرجل العاري” مأساة الإنسان اليوم. تريد أن تحصر هذه الشركات هوية الإنسان المتعددة في البعد الرقمي وأن تخضعه له.
لقد وقعنا ربما في فخ إنتاج ”الإنسان ذو البعد الواحد” الذي حذرت منه مدرسة فرانكفورت، ولو في ظرفية تاريخية مختلفة.
”ماذا يساوي الصعود لقمة كيلمنجارو، إن لم نضع صورة لذلك في فايسبوك أو تويتر؟”. لم يجد الكاتبان الفرنسيان مارك دوغان وكريستوف لابي سوى هذه العبارة الساخرة، لعكس حالة الهوس التي أصبحت تغمر الإنسان، وتدفعه لمشاركة كل تفاصيل حياته من أفراح وأتراح.
‘لا يجب أن ننسى أن وراء الشركات الكبرى في العالم ترسانة من المتخصصين في علم النفس الاجتماعي. يجب أن يعي مستهلك الوسائط التواصلية أن استخدامه لها، يستجيب لأمرين أساسين: أولا، كيف أجلب الرغبة. ثانيا: كيف أجعل صاحب الرغبة يستسلم لرغبته دون أن أثير عنده ما يشكل القيمة الأولى للإنسان وهو الفكر الناقد.
لا يفعل الأشخاص ذلك بهدف نبيل وإنساني عادةَ. هي خدعة مضمرة من عمالقة العالم الرقمي لإبقاء الإنسان متصلا بالأنترنيت، ووسيلة سحرية لاستخلاص أكبر قدر من المعلومات حول ميولات الناس واختياراتهم في الحياة.
نحن أمام شركات عملاقة تدنو من التغول، ففايسبوك وجوجل لوحديهما يحتكران جزء كبيرا من الإعلانات عبر الأنترنيت. الأفظع من ذلك، دخلت البيغ داتا في حرب ضروس مع المقاولات الإعلامية في العالم، برفضها للأداء مقابل نشر روابط المقالات الصحفية.
الديكتاتورية الرقمية… أحلام الانعتاق واردة.
الثورة التكنولوجية مثل الحداثة، نهر قوي متدفق؛ الإبحار فيه عكس التيار قد يفضي إلى الموت، والمشي عكس مجرى التاريخ.
أمام هذه الحتمية، على الإنسان أن يناشد نعمة العقلانية، ويدرك قبل كل شيء فداحة تأثير العالم الرقمي على شرطه الإنساني.
يعبر السيميائي سعيد بنكراد، مترجم كتاب ”الإنسان العاري”، عن عمق هذا التحول في حياة الإنسان كالتالي: ”لم يعد الافتراضي لعبة عارضة في حياة الناس، بل تحول إلى وجود حقيقي له “هوياته” و”أنواته” وضمائره ومساحاته وفضاؤه وزمانه”.
الإنسان أصبح يبلور قيما جديدة، لم تكن في السابق، وهي قيمة الاعتراف على المستوى العالمي، والتي تختزل في الثلاثي “جيم\لايك” “بارتاج\شير” والمشاهدات. وهي تخاطب في الإنسان الجانب العاطفي وليس الجانب العقلي
”يجب تشجيع كل ذات على تقبل فرادتها، لتبلور هويتها كفسيفساء متنوعة من الانتماءات، بدلاً من اختزالها في هوية واحدة؛ تنصب نفسها كانتماء أعلى وكأداة استبعاد… أحيانًا أداة حرب”. يبدو أن الكاتب أمين معلوف، تنبأ في كتابه ”الهويات القاتلة”، بمأساة الإنسان المعاصر الذي أصبح يختزل وجوده المتعدد في الهوية الرقمية، حيث يعتقد الكثيرون أن حقيقتهم تكمن في الصورة التي يرسمونها لأنفسهم في مواقع التواصل الاجتماعي.
واهمٌ من يعتقد أن نجاح الشركات العملاقة لوادي السيليكون مرتبط فقط بالاعتماد على خبرات أدمغة العالم الرقمي، بل… هي تلجأ دائما للعلوم الإنسانية، من أجل التأكد من ديمومة ارتباط المستهلك بخدماتها.
يرى محسن بن زاكور، الباحث في علم النفس الاجتماعي، أنه ”لا يجب أن ننسى أن وراء الشركات الكبرى في العالم ترسانة من المتخصصين في علم النفس الاجتماعي. يجب أن يعي مستهلك الوسائط التواصلية أن استخدامه لها، يستجيب لأمرين أساسين: أولا، كيف أجلب الرغبة. ثانيا: كيف أجعل صاحب الرغبة يستسلم لرغبته دون أن أثير عنده ما يشكل القيمة الأولى للإنسان وهو الفكر الناقد. الإنسان أصبح يبلور قيما جديدة، لم تكن في السابق، وهي قيمة الاعتراف على المستوى العالمي، والتي تختزل في الثلاثي “جيم\لايك” “بارتاج\شير” والمشاهدات. وهي تخاطب في الإنسان الجانب العاطفي وليس الجانب العقلي”.
تذكرنا الفلسفة دائما أن ما يميز الإنسان هو قوة الإرادة. لذلك، لا يجب أن يستبد بنا السأم من التحرر من هذا الخضوع غير المعلن للشركات الرقمية.
يذكرنا التاريخ أيضا، أن الإنسان خرج منتصرا من ديكتاتورية الأنظمة الشمولية، وانتصر لقيم الحرية والفردانية المشكّلة لكينونته.
عن سبل الانعتاق من خطر الثورة التكنولوجية، يرى محسن بنزاكور، في تصريح لموقع ”مرايانا” أن ”سبيل الانعتاق من وطأة هذه الوسائط التواصلية هو أن يكون للإنسان اختيارات مبنية على قيم وغايات ورسالة؛ حتى لا يصبح عرضة للفكر الاستهلاكي المحض، وذلك في غياب لكل المعطيات الفكرية والنفسية التي تميز الإنسان كالملاحظة والتمييز والتفكير والاستنباط. فعلى المستوى النفسي والعلائقي، التبادل العاطفي بين الناس (الفرح، الغضب)، هو الذي يقوي من نفسية الإنسان، وهذا ما يغيب على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يصبح الأمر قاصرا على بعد واحد، وهو اعتراف الآخر بي من عدمه. وهنا أخلُق التبعية لنزوات الآخر دون أي استقلالية وتميز”.
مصادر:
1-مارك دوغان وكريستوف لابي، الإنسان العاري: الديكتاتورية الخفية للعالم الرقمي، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي للكتاب.
2-أمين معلوف، الهويات القاتلة، ترجمة نبيل محسن، ورد للطباعة والنشر والتوزيع.
اقرأ أيضا:
- خطر الثورة الرقمية…هل نُسفت قيم الديمقراطية وصار الإنسان عاريا؟ 2/1
- من فرنسا، الباحث السوري وسام الناصر يكتب: الوجه الآخر لفيسبوك: مستنقع الكراهِية والعدوانيّة
- كوثر بوبكار، من أبرز الباحثين في ميدان النانوتيكنولوجيا في العالم، تكتب: ما بعد الحقيقة…
- تيك توك، إنستغرام، سناب شات… هوس الشهرة و “غزو الحمقى”
- استخدام المغاربة للشبكات الاجتماعية… حينما يصبح الافتراضي واقعا!
- كوثر بوبكار تكتب: التكنولوجيات الحديثة: بين تحرير النشر وانتشار الهراء 1/2