في حوار مع ”مرايانا”، عبد الكريم جويطي: المجتمع المغربي في عمومه يستمع للفقيه والعشاب والمشعوذ أكثر مما يستمع للمثقف (3\1)
هو صرخة ملالية صادقة؛ لم يكتب عبد الكريم الجويطي من أجل الكتابة فقط، وانتقاد تاريخ المغاربة، بل قدم لهم مرآة عملاقة، ليبصروا تاريخهم وانكساراتهم غير المعلنة.
رغم إبداعه في رواية ”كتيبة الخراب” وترجمته للرواية الشهيرة ”نظافة القاتل” لأميلي نوتومب، لم يكتشف كل القراء المغاربة الجويطي سوى بعد إصداره للرواية-التحفة ”المغاربة”. لتذرع هذه الأخيرة أيادي الآلاف من القراء، وتنصب نفسها كواحدة من أهم الروايات المغربية في القرن الحالي.
”مرايانا” في هذا الحوار مع الكاتب المغربي، في أجزائه الثلاثة، يناشد الأعماق والغوص في خبايا كتابة أهم أعماله الأدبية، وكيف انعكست تجربته الحياتية على مؤلفاته، بالإضافة إلى التعرف على رأيه في بعض المستجدات الثقافية وطنيا دوليا.
1\ كنتَ جسورا بالاعتراف أن قصة السائحة الدنماركية في رواية ”كتيبة الخراب”، وانتزاع الأرض تحت ذريعة المصلحة العامة في رواية ”المغاربة” حقيقيتان. هل نستشف من هذا أن الحياة بتراجديتها أكثر بلاغة حتى من الخيال، وأنها هي من تصنع الروائي؟
كثيرا ما أفكر في المفارقة التالية: كيف استهوت الحياة المغربية، بما فيها من عمق وأصالة ورحابة وفرح، بعض كبار الكتاب العالميين وقرروا العيش بيننا؟
أفكر في خوان غويتيسولو وبول بولز وجون جونييه وغيرهم من الكتاب، والفنانين الذين شكل المغرب بالنسبة لهم مصدر إلهام؛ وكيف أن هذه الحياة حين تتحول إلى تعبير في كتابة المغاربة لا تثير اهتمام العالم مثلما تفعل حياة الناس في المدن العتيقة وفي القرى.
هل ما كُتب في مستوى غنى وتعدد الواقع؟ أشك في ذلك.
أعتقد بأن عملا كبيرا ينتظر الكتابة المغربية. عليها أن تحفر في كل الاتجاهات. عليها أن تراود المستحيل عن نفسه حتى يقول لها: هيت لك. عليها أن تحفر لتخرج الطبقات المتراكبة التي صنعت هذا البلد العجيب الذي يتخاصر في الماضي والحاضر وتتعايش فيه النقائض.
الواقع هو المعلم الأول، غير أن أشياءه، حين تدخل الكتابة، تفقد واقعيتها.
الكتابة، كالموت، يخوضها الفرد لوحده وعليه أن يعول على جهده وقدراته في التخييل وفي مقارعة اللغة…
قال غوته عن قصة حكاها: ”ليس فيها أي حرف لم أعشه، وليس فيها أي حرف بالكيفية التي عشته بها”.
الواقع مادة من مواد الكتابة، والرهان الكبير الذي يواجه أي كاتب هو كيف يحرر هذه المادة من واقعيتها. كيف يزرع فيها الدهشة والخيال حتى أن الواقع نفسه حين يرى مادته يندهش وينكرها مثل فاكهة محرمة.
2\ في رواية ”كتيبة الخراب”، اقتصر دور المثقف، في سرد الأحداث، على مساعدة الناس في ملء الكلمات المتقاطعة، ومساعدة طالبة في بحث التخرج، واستقبال سائحة دنمركية لأنه يتحدث قليلا الإنجليزية. هل أردت بهذا أن تعكس أن دور المثقف في المجتمع المغربي عموما صار هامشيا؟
المجتمع المغربي في عمومه يستمع للفقيه والعشاب والمشعوذ أكثر ما يسمع للمثقف. في معظم المجتمعات التقليدية، يصير الوعي محنة كبيرة.
التغيير لا يحدثه المثقفون إلا حين تتحول أفكارهم لقوة اجتماعية
تحدث بطل رواية كتيبة الخراب عن عذاب الهوة الكبيرة بين ما يقرؤه في الكتب، وما يراه في الواقع. منذ بدايات ما سمي بالنهضة، والمثقف ممزق بين ما يحلم به، وما يتحقق أمام عينيه، وعليه في كل مرة أن يطرح أسئلة هذا الانحطاط الذي لا يريد أن يذهب لحاله… بل إنه يتجبر وتتجدد دماؤه بعد كل نكسة.
بطل كتيبة الخراب، مثلنا جميعا، يشاهد مدينته وهي تنهار ويُساء تسييرها كل يوم ويترك فيها الحبل على الغارب لتمدن أرعن، وتتلقى فيها الأشجار الباقية والمستميتة ضربات معاول الهدم. وليست له القدرة على إيقاف ذلك. صوته هش جدا وقواه لا تقدر على مواجهة جيش من النهابين. كلنا شهِدنا قتل أمكنة جميلة، ولا نملك إزاء الجريمة إلا الشهادة نفسها.
التغيير لا يحدثه المثقفون إلا حين تتحول أفكارهم لقوة اجتماعية.
3\ عبرت عن اعتزازك الكبير برواية ”ليل الشمس”. لكن قد لا يختلف اثنان على أن رواية ”المغاربة” تتفوق عليها من حيث ”الصنعة” الأدبية. خلال هذا المسار، ما الذي جعل عبد الكريم الجويطي يتطور ككاتب، ويصبح من أهم الروائيين المغاربة المعاصرين؟
أعتز بروايتي الأولى؛ لأنني كتبتها في عزلة تامة وفي وسط بعيد تماما عن الكتابة. كتبتها أيضا بدون عون من أحد، بدون نصيحة، وتغلبت على مشاكل كتابتها بمفردي وفي سن مبكرة (24سنة)، وأعتز بها أكثر حين يعتقد بعض القراء بأنني كتبتها بعد ”المغاربة”.
لقد حرصت منذ أن ولدت بداخلي رغبة الكتابة على أن أتسلح بالمعرفة.
قرأت وأقرا كثيرا، وفي كل فروع المعرفة. الثقافة الضحلة لا تصنع رواية لأن قدر هذا الجنس الأدبي هو أن يختبر معارف كثيرة في حياة الناس… قدره هو أن يمتص المعرفة الإنسانية ويحولها لحكاية تمشي على رجلين. قد يكتب الشعر بالحدس والإشراق واللقاء السريع والعاصف مع المعنى، بينما لا تكتب الرواية إلا بالتأمل والفهم والاستشراف. الشعر برق، والرواية سحاب متمهل.
قرأت وأقرا كثيرا، وفي كل فروع المعرفة. الثقافة الضحلة لا تصنع رواية لأن قدر هذا الجنس الأدبي هو أن يختبر معارف كثيرة في حياة الناس… قدره هو أن يمتص المعرفة الإنسانية ويحولها لحكاية تمشي على رجلين
حرصت أيضا على ألا أسابق أحدا وألا أخاف من أن أُنسى. قد أقضي سنوات في إنضاج فكرة رواية بداخلي. ففي النهاية، وبعد الموت، إن بقي الشعب الذي تنتمي له يذكرك بنص واحد، بل بفقرة أو فكرة واحدة، فهذا أمر عظيم.
حرصت أيضا ودوما على أن يكون لي صوتي الخاص، لغة وبناء، وعلى ألا تشبه رواياتي إلا نفسي… ووضعت كأفق لأعمالي هاجس تقليب التربة المغربية، واستخراج مكوناتها وخصائصها، وآمنت بأن للرواية مهمة جسيمة في مجتمع يخاف الحداثة ويحتمي بالتقليد، وكلما كان عليه في حدث فاصل بأن يختار بين المستقبل والماضي، اختار الأمان الذليل للماضي.
4\ عطفا على السؤال السابق، صحيح أن لكل روائي تجربته الحياتية الخاصة. لكن، هل تنصح الروائيين الشباب بانتظار مرحلة النضج لنشر أعمالهم الأدبية، أم الإقدام على كتابة الرواية في سن صغيرة؟
لا أحب إعطاء النصائح ولست مؤهلا لذلك. حتى الأصدقاء الذين يكتبون نصهم الأول، أقدم لهم نصائح تقنية فقط لا تتعلق بجوهر الكتابة.
الكتابة، كالموت، يخوضها الفرد لوحده وعليه أن يعول على جهده وقدراته في التخييل وفي مقارعة اللغة…
سأخبرك بشيء قلته في لقاء ما حول ”المغاربة”: التجربة نفسها لا تفيد في الكتابة. رغم أن لك نصوصا سابقة، وكلما هممت بكتابة نص جديد، تحس بأنك تبدأ من الصفر، وكل ما تعلمته لا فائدة منه. نحن لا نستأنف الكتابة بل نبدؤها في كل مرة بأمل انتزاع شيء ما من صمت اللغة بداخلنا…
لكل هذا، لا سن محددة لمباشرة الكتابة ونشر المكتوب. صيرورات الناس تختلف وظروفهم كذلك، ونضج ملكة التعبير بداخلهم يتباين. هناك من يأتي للكتابة في سن مبكرة وهناك من ينتظر اختمار تجاربه.
يشرفني كوني أني أنتمي إلى المدينة التي ينتمي لها الأستاذ المثقف والروائي عبد الكريم جويطي