في مفهوم “الطاغية”: هكذا يحتفظ الطغاة بعروشهم… 5/3
أغلب هذه الوسائل ابتكرها في الأصل، بريندر Periander (توفي 583 ق.م)، طاغية كورينثوس (اليونان)، الذي كانت فترة حكمه الأطول بين الطغاة في تاريخ اليونان.
تابعنا في الجزء الثاني، عددا من أشكال الحكم التي تختلف في بعض خصائصها وسماتها بينما تجتمع في غايتها النهائية: “الطغيان”.
كل أشكال الحكم تلك، وقد تابعنا 6 أمثلة منها، جثمت طويلا على صدور الشعوب، التي لم تنفك منها إلا بعد تاريخ مرير من الكفاح، وإن كان بعضها… ما زال إلى اليوم يرزح تحت حكم “طاغية”!
في هذا الجزء الثالث، نواصل قراءتنا في كتاب المفكر المصري إمام عبد الفتاح إمام، “الطاغية… دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي”، ونتابع من بين دفتيه لمحة عما يفعله الطغاة للحفاظ على حكمهم.
تكاد تكون عوامل استقرار الحكم الفردي واحدة… هذا العامل هو الاعتدال.
وحده الملك المعتدل يحتفظ بعرشه، فكلما قلص من امتيازاته، وقلل من سلوكه كسيّد، أو من معاملة المواطنين معاملة دنيا، زاد احتمال أن يظل على العرش.
هذا ما يفسر في الواقع استمرار النظام الملكي في بعض البلدان لفترة طويلة.
الغاية النهائية لكل طاغية، قصد الحفاظ على عرشه، هي أن يدمر روح المواطنين، ويزرع الشك وانعدام الثقة فيما بينهم، ويجعلهم عاجزين عن فعل أي شيء…
بالمقابل، يحتفظ الطاغية بعرشه عن طريق وسيلتين، والأغرب أن كليهما تناقض الأخرى تماما.
يرى إمام عبد الفتاح إمام أن الوسائل التي اعتقد أرسطو أن الطاغية يلجأ إليها بهدف الحفاظ على عرشه، مألوفة لنا تماما، ذلك أن الطغاة يتوارثونها، ومعظمهم يسير عليها في تدبير شؤون سلطانهم.
اقرأ أيضا: مغرب القرن الـ18 بعيون أسيرة هولندية (الجزء الأول)
أغلب هذه الوسائل ابتكرها في الأصل، بريندر Periander (توفي 583 ق.م)، طاغية كورينثوس (اليونان)، الذي كانت فترة حكمه الأطول بين الطغاة في تاريخ اليونان، وإن كان قد استمد الكثير من سماتها من نظام الحكم في فارس.
الطريقة الأولى
الغاية النهائية لكل طاغية، قصد الحفاظ على عرشه، هي أن يدمر روح المواطنين، ويزرع الشك وانعدام الثقة فيما بينهم، ويجعلهم عاجزين عن فعل أي شيء…
الطاغية يعوّد الناس على الخسة والضعة، والعيش بلا كرامة، حتى يسهل عليهم أن يعتادوا على الذل والهوان.
كما يقضي على البارزين من الناس، وأصحاب العقول الناضجة، ويستأصل كل من تفرق أو حاول أن يرفع رأسه.
في حين يعتمد النظام الملكي في حمايته على الأصدقاء، يسير الطاغية على مبدأ أن جميع الناس يودون الإطاحة به… غير أن الأصدقاء وحدهم هم الذين يستطيعون ذلك!
الطاغية يمنع الاجتماعات والنوادي، ويحظر التعليم أو يجعله لونا من الدعاية له، كما يحجب كل ما يعمل على تنوير النفوس أو يبث الشجاعة والثقة بالنفس.
… ويمنع المواطنين من التجمع لأغراض ثقافية أو أي تجمع مماثل، ويتخذ كافة السبل التي تغرس في المواطن الشعور بأنه غريب في بلده.
اقرأ أيضا: من الأردن، بشار حداد يكتب: #دمتم_وقودا
الطاغية، يجتهد حتى تكون لديه معلومات منتظمة حول كل ما يفعله رعاياه أو يقولونه، كما يعتمد على إغرائهم بأن يشي بعضهم بالبعض الآخر.
… ويُفقر رعاياه، حتى ينشغلوا بالبحث عن قوت يومهم، فلا يجدون من الوقت ما يتمكنون فيه من التآمر عليه.
يقضي الطاغية على البارزين من الناس، وأصحاب العقول الناضجة، ويستأصل كل من تفرق أو حاول أن يرفع رأسه.
فضلا عن هذا، قد يلجأ الطاغية إلى إشعال الحروب، وهدفه من ذلك، إشغال المواطنين بصفة مستمرة، حتى يعتقدوا على الدوام بأنهم بحاجة إلى قائد.
ثم إنه… في حين يعتمد النظام الملكي في حمايته على الأصدقاء، يسير الطاغية على مبدأ أن جميع الناس يودون الإطاحة به… غير أن الأصدقاء وحدهم هم الذين يستطيعون ذلك!
الطريقة الثانية
أحد العوامل التي تسهم في رأي أرسطو، في تدمير النظام الملكي، هي أن يتحول إلى طاغية…
نفهم من ذلك، أن إحدى الطرق التي تمكن الطاغية من الحفاظ على نظام حكمه، هي أن يصبغ طغيانه بطبيعة النظام الملكي.
اقرأ أيضا: عبد الدين حمروش يكتب: الدولة المدنية والدولة الديمقراطية
لكن… حتى يظل طاغيةً، عليه أن يحتفظ بالقدرة وبالسلطة في حكم رعاياه، ليس برضاهم، إنما رغما عنهم… فإذا تنازل عن هذه الخاصية، يعني ذلك أنه تنازل عن الطغيان.
يتميز حكم الطاغية بانعدام الرأي الآخر، ولهذا فجميع أنظمة الحكم غير الديمقراطية، هي أنظمة طغيان أو استبداد بطريقة أو بأخرى.
بإيجاز، يبدو أن أرسطو يتحدث هنا، عما سمي في العصر القديم بالطاغية الصالح أو الخيّر… ذاك الذي يطلق عليه في العصر الحديث: المستبد العادل.
المستبد العادل، كما رأينا في الجزء الثاني، على غرابة اسمه، حاكم ينفرد بالحكم لكنه بالمقابل يهتم بالصالح العام.
بحسب إمام عبد الفتاح، فعالم السياسة البريطاني إرنست باركر، يرى أن أرسطو استبق نصائح المنظر السياسي الإيطالي نيكولو ميكيافيللي، وقدم نصائح سياسية لـ”أميره الجديد” بطريقة واقعية.
اقرأ أيضا: العصر الذهبي للدولة الإسلامية… تاريخ الاقتتال السياسي 2/4
بيد أن نصائحه هذه، تختلف جذريا عن نصائح ميكيافيللي، من حيث إن أرسطو يدعو الأمير الجديد إلى أن يكون “عقل الدولة”، وأن يكون ملكا وإنسانا… أو على الأقل أن يلعب دور الملك والإنسان!
لكن مفهوم “الطاغية الصالح” قد يتسع، وثمة أمثلة عديدة على ذلك حديثا، منها هتلر وموسوليني وستالين في الغرب، وسوكارنو وعبد الناصر وصدام في الشرق.
العبرة ليست بما يقدمه الحاكم من أعمال “مجيدة”، وقد يفعل منها الكثير… ففي النهاية يقتل الإنسان، يدوس كرامته وقيمته ووجوده كإنسان، إنه يدمر “روح المواطن”، كما قال أرسطو، ليحيل المجتمع إلى مجموعة من النعاج تسهل قيادتها!
لم يكن طغيان هؤلاء من أجل الشراب والنساء والمتع الحسية، إنما كانت لهم أهداف أخرى مثل: بناء إمبراطورية؛ السيطرة على شعوب العالم؛ نشر فكره بالقوة؛ التفرد بالحكم في جميع هذه الحالات؛ والتشبه بالإله في صفة من صفاته وهي: “ألا يُسأل عما يفعل”.
إجمالا، يتميز حكم الطاغية بانعدام الرأي الآخر، ولهذا فجميع أنظمة الحكم غير الديمقراطية، هي أنظمة طغيان أو استبداد بطريقة أو بأخرى. لهذا، كرهت الفاشية النظم الديمقراطية كراهية شديدة.
اقرأ أيضا: ديمقراطيتنا تعاني شللا نصفيا!
لكن المجتمع الذي يرتبط فيه الشعب بالزعيم/القائد الملهم، بحبل سري، هو مجتمع يحكمه طاغية بغض النظر عما يفعله، يقول إمام عبد الفتاح.
العبرة ليست بما يقدمه الحاكم من أعمال “مجيدة”، وقد يفعل منها الكثير… ففي النهاية يقتل الإنسان، يدوس كرامته وقيمته ووجوده كإنسان، إنه يدمر “روح المواطن”، كما قال أرسطو، ليحيل المجتمع إلى مجموعة من النعاج تسهل قيادتها!
في الجزء الرابع نتابع كيف ارتدى هؤلاء الطغاة عباءة الدين لتبرير إطلاق أيديهم في الحكم.
لقراءة الجزء الأول: في مفهوم الطاغية: هل السلطة السياسية ضرورية في الحياة الإنسانية؟ 5/1
لقراءة الجزء الثاني: في مفهوم “الطاغية”: هذه 6 أشكال من الحكم تجثم على صدور الشعوب وتكرهها! 5/2
لقراءة الجزء الرابع: في مفهوم “الطاغية”: ارتداء عباءة الدين… الحاكم “الإله” والحكم الثيوقراطي 5/4
لقراءة الجزء الخامس: في مفهوم “الطاغية”: من سلطان الله في أرضه إلى “الرئيس المُخلّص”! 5/5