في مفهوم الطاغية: هل السلطة السياسية ضرورية في الحياة الإنسانية؟ 5/1
كلما تطورت الجماعة الإنسانية، تدعّمت ظاهرة السلطة أكثر، وتحولت إلى قوانين منظمة للمجتمع… وكلما تطورت الدولة، أصبحت هذه القوانين أكثر استقرارا وتعقيدا.
ما عرفه التاريخ الإنساني من طغاة، أكثر بكثير مما عرفه من حكام خيّرين… وقد ظلت شعرة معاوية بينهم وبين الشعوب قائمة لتاريخ طويل، حتى قطعها هؤلاء بكفاح وثورات مريرة.
غير أن موضوع “الطاغية”، على أهميته، عربيا، ظل موضوعاً صعبٌ الإقدام على البحث فيه ما بقي “الطاغية” متربعا على كرسي الحكم، يقول المفكر المصري إمام عبد الفتاح إمام.
… ذاك دأب العالم الثالث، الذي لم يخلص بعد من “القائد الملهم” و”الزعيم الأوحد”، الذي يفتدى بـ”الروح والدم”… وذاك موضوع هذا الملف الذي نقدم فيه نتفا من كتاب المفكر المصري، “الطاغية… دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي”.
قال الفيلسوف اليوناني أرسطو قديما إنّ الإنسان مدني بطبعه، وإنه بفطرته، يُقبل على الحياة في جماعة سياسية منظمة.
سادت فكرته هذه حتى عصر النهضة. ثم ظهر الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز بفكرة كانت ثورية يومها، تقول إنّ الفوضى هي الحالة الطبيعية في حياة الإنسان.
المجتمع المنظّم في نظر هوبز، مجتمع صناعي، صنعه الإنسان بإرادته.
أي الفكرتين أصح إذن؟
لا يمكن تصوّر مجتمع سياسي دون سلطة حاكمة، تنظمه وتسن القواعد التي يسري عليها…
لكل رأيه وما يستند إليه في دعمه… لكن، سواء بفطرته أو بإرادته، فالحياة الإنسانية لا بد لها من تنظيم حتى لا تكون مجرد عبث، أو لنجازف ونقول: حياة حيوانية.
القاسم المشترك بين الفكرتين كما نلاحظ، هو النظام، فحيث لا يوجد، يضل الناس طريقهم ولا يدرون معنى لحياتهم.
غير أن هذا النظام بحاجة إلى سلطة منظِّمة تخضع لها الجماعة، إذ لا يمكن تصوّر مجتمع سياسي دون سلطة حاكمة، تنظمه وتسن القواعد التي يسري عليها…
اقرأ أيضا: النبوة والمسألة السياسية… حين وجد العرب في ادعاء النبوة سبيلا لسياسة الناس! 3/1
كما يقول الكاتب الإنجليزي جلبرت تشيسترتون: “لو أن جماعة كانت كلها قادة أبطالا، مثل هانيبال ونابليون، فمن الأوفق ألا يحكموا جميعا في وقت واحد”.
هكذا، عندما يحدث ما يسميه فقهاء القانون بـ”التمايز السياسي”، ينشأ المجتمع السيامي؛ أي أن المجتمع ينقسم إلى فئتين:
فئة حاكمة تتولى السلطة السياسية وتصدر القرارات والأوامر، وفئة محكومة لا يكون لها إلا الطاعة والتنفيذ.
إن كانت السلطة ضرورية لتحقيق أمن المجتمع، فلا ينبغي بالمقابل أن تبتلع حريات الأفراد!
وللسلطة السياسية في أي دولة صفات ذاتية خاصة، أطلق عليها الفقه الفرنسي لفظ “سيادة”. صفة السيادة هذه، تقضي بأن سلطة الدولة سلطة عليا، لا يسود عليها شيء ولا تخضع لأحد، إنما تسمو فوق الجميع، وتفرض نفسها على الجميع.
هذا ما يسمى بـ”الدولة”، التي مهما تغيرت أشكالها وصورها، يظل مبررها كما هو منذ القديم؛ أي تحقيق الأمن والاستقرار، حتى إنها سميت في بداياتها بـ”الدولة الحارسة”.
هكذا، كلما تطورت الجماعة الإنسانية، تدعّمت ظاهرة السلطة أكثر، وتحولت إلى قوانين منظمة للمجتمع… وكلما تطورت الدولة، أصبحت هذه القوانين أكثر استقرارا وتعقيدا.
اقرأ أيضا: “المخزن”… تاريخ طويل من الأسئلة! (الجزء الأول)
لا يهم هنا من يقوم بأمر هذه السلطة، فقد يكون شخصا واحدا، وقد يكون مجموعة أشخاص… وذاك ما قد لا ينطوي على شرعية أو تفويض!
رِضا المحكومين ليس شرطا حتى تقوم السلطة، التي بإمكانها أن توجد فقط عن طريق القوة والقهر… لكنها؛ متى ما وجدت، وأصبحت قادرة على إلزام الأفراد على احترام إرادتها والخضوع لسلطاتها، صارت صالحة لتكوين الدولة.
كانت السلطة السياسية في الماضي تختلف وفقا لأشخاص الحكام، فقد كانوا يمارسونها كامتياز شخصي يكتسبونه بفضل مواهبهم أو جبروتهم…
مع ذلك، لا بد أن يكون هناك تبرير لهذه السلطة السياسية حتى تكون شرعية؛ أي ليتمكن الحاكم من الاستناد إلى هذه الشرعية في ممارسته لهذه السلطة.
ثم إنه لا بد من رسم حدود لها… إن كانت السلطة ضرورية لتحقيق أمن المجتمع، فلا ينبغي بالمقابل أن تبتلع حريات الأفراد!
في الماضي، كانت السلطة السياسية تختلف وفقا لأشخاص الحكام، ذلك أنهم كانوا يمارسونها كامتياز شخصي يكتسبونه بفضل مواهبهم أو جبروتهم… قديما، لم يكن هنالك فرق بين الحاكم والسلطة.
اقرأ أيضا: علي اليوسفي العلوي يكتب: الإسلام: دين ودنيا، أم دين ودولة؟
كان الحاكم كل شيء وقتها، يمارس على الجماعة سلطته المطلقة التي يستمدها من شخصيته، ومما يتمتع به من قوة مادية هيّأت له إخضاع الأفراد لنفوذه اللامحدود.
أما حديثا، فالوضع قد تغير جذريا وصارت السلطة ملكا للدولة، لا لأشخاص الحكام، ولم يعد الحكام سوى ممثلين لهذه السلطة، التي يمارسونها باسم الدولة.
يرى الفقيه الفرنسي، موريس ديفيرجيه، أن الدكتاتورية ليست إلا مرضا من أمراض السلطة، وليست ظاهرة طبيعية.
التطور التاريخي أبرز أن السلطة إذا اجتمعت في يد شخص واحد، فإنها ستزول بزواله… ستصير نهبا للأطماع ومحلا للتنافس بين الأفراد، فيكون الاحتفاظ بها رهينا بقوة الشخص وما يتمتع به من بطش وجبروت.
كان إذن لا بد من الفصل بين السلطة السياسية والحاكم الذي يمارسها، وإسنادها إلى شخص له صفة الدوام… الشخص الوحيد هذا، الذي يمكنه حمل هذه الصفة، هو: الدولة.
لكن الانتقال من مرحلة السلطة الشخصية، إلى مرحلة السلطة المجردة التي تنبع شرعيتها من الجماعة، لم يتم دفعة واحدة.
اقرأ أيضا: الإخوان المسلمون… التأسيس وحلم الخلافة 1/3
كان تكيف السلطة هذا، ثمرة عملية تاريخية طويلة، أسهمت فيها الشعوب بكفاحها من جهة، والفلاسفة بأفكارهم من جهة أخرى.
هكذا، أصبح مستقرا الآن القول إن السلطة منفصلة عمن يمارسونها، وإنها تستند تماما إلى الدولة.
كان لا بد من الفصل بين السلطة السياسية والحاكم الذي يمارسها، وإسنادها إلى شخص له صفة الدوام… الشخص الوحيد هذا، الذي يمكنه حمل هذه الصفة، هو: الدولة.
لكن السلطة ليست مجرد قهر مادي فقط، فإذا صارت كذلك وحسب، كشفت عن انحراف مرضي لا ينبئ عن وضع طبيعي للأمور.
الفقيه الفرنسي موريس ديفيرجيه، مثلا، يرى أن الدكتاتورية ليست إلا مرضا من أمراض السلطة، وليست ظاهرة طبيعية.
اقرأ أيضا: محمد بن سلمان… من تهمة “أبو رصاصة” إلى تهمة “أبو منشار”
قبل أن نختم هذا الجزء الأول، لا بد أن نشير إلى أن هناك نظريات كثيرة تفسر نشأة السلطة السياسية منها:
- النظرية الثيوقراطية، التي تبرر إطلاق يد الحاكم في السلطة باسم شخصيته المقدسة؛
- النظرية التعاقدية، التي قام على أساسها النظام الديمقراطي الحديث، لا سيما العقد الاجتماعي عن جون لوك وجون جاك روسو؛
- النظرية التطورية، التي تقول إن الدولة قد ظهرت نتيجة لتطور تاريخي من الأسرة؛ النواة الأولى في بناء المجتمع.
في الجزء الثاني نتعرّف إلى 6 أشكال من الحكم تجثم على صدور الشعوب وتكرهها.
لقراءة الجزء الثاني: في مفهوم “الطاغية”: هذه 6 أشكال من الحكم تجثم على صدور الشعوب وتكرهها! 5/2
لقراءة الجزء الثالث: في مفهوم “الطاغية”: هكذا يحتفظ الطغاة بعروشهم… 5/3
لقراءة الجزء الرابع: في مفهوم “الطاغية”: ارتداء عباءة الدين… الحاكم “الإله” والحكم الثيوقراطي 5/4
لقراءة الجزء الخامس: في مفهوم “الطاغية”: من سلطان الله في أرضه إلى “الرئيس المُخلّص”! 5/5