التصوّف المسيحي… حكايةُ التمرّد على دين الكنيسة المتعالي!
نكاد نعرف كثيرا عن التصوف في الإسلام، خاصةً في المغرب الذي كان يُدعى قديما بلاد الأولياء، بينما قد لا يحوز بعضنا المعرفة ذاتها عن التصوف في الديانات الأخرى… في هذا الملف، نتعرّف إلى العشق الإلهي… على الطريقة المسيحية!
بينما ينزع المُتديّن إلى ترقب حياةٍ أخرى بعد الموت، يسعى المُتصوّف إلى عيش تجربة “إلهية” في الحياة الدنيا.
تجاربٌ كانت عبارةً عن مسارات فردية في مُعظم تاريخ التّصوف، وحدثَ أحيانا أنّها ألهمتْ أشخاصا عدّة في صورة جماعات، تحوّلَ بعضها إلى قوة اجتماعية، خاصة في الإسلام واليهودية.
ظهر بعض مُعلّمي اللاهوت الروحي مثل أوريغانوس وأوغسطينوس منذ أزمنة المسيحية الأولى…
الصوفية التوحيدية غير الروحانيات القديمة أو الشرقية من هندوسية وبوذية وغيره… فالله في كتب هذه الديانات، الإبراهيمية، يتجلى عبر الوحي للبشر ومن أجلهم.
المتصوّف يُراهن على هذه العلاقة بين البشر والإله، ويحاول الدفع بها، من خلال تجربة التصوّف، إلى الحد الأقصى…
أجواء هذه التجربة تكاد تكون واحدةً في الديّانات الثلاث، وكلّها يستعين بـ”الحب” -بالفهم البشري- للتعبير عن هذا اللقاء مع الله.
اقرأ أيضا: هذه حكاية التصوف في المغرب… بلاد الأولياء والصالحين!
يُستلهم هذا التعبير في التّصوّف المسيحي من “نصوص مُقدّسة” مثل نشيد الأناشيد، بينما نأخذ فكرةً واضحة عنه في التصوّف الإسلامي بالعودة إلى أشعار كلّ من الحلاج، ابن الفارض، رابعة العدوية، ابن عربي، الرومي…
على أنّ تجارب التّصوّف تلك تختلف داخل كل ديانة… ثَمّةَ مذاهب مُتعدّدة بل ومتعارضة…
التصوف في أوروبا نشأ كـ”ردّ فعل ضد الدراسات الميتافيزيقية المجردة والمنطقية وضد ما يسمى بـ”التفكير الموضوعي” لصالح شيء واحد يحتاجه المسيحي، وهو الخلاص من خلال الاتحاد بالله”.
بعضُها يقول بوحدة الوجود؛ أي أن الله وحده الحقيقة المطلقة وأن روح الإنسان انبعاثٌ إلهيّ، بينما بعضها الآخر يحتفظ بمعنى شخصاني لا يعدو أن يكون عشقا لنعم الخالق.
أيا يكن، فإن مرمى التصوّف، في نهايته، الوصولُ إلى حالة من الطهارة والقداسة تُرمّم ما كسرته خطيئة آدم بين الإله والإنسان.
اقرأ أيضا: من مصر، أحمد محمد عبده يكتب: كيمياء الدين والتدين… الوسطية، التصوف والتطرف 1/2
بيد أنه ثمّةَ فرق بيّنٌ نُسطره هنا بين التصوف في الإسلام وذاك المسيحي.
فالإسلام دينٌ ينبني على الخلاص الفردي، ولا يُعبّر عن أي انشغال بالخلاص الكوني… بينما تُعدّ المسيحية، في الأصل، ديناً يقوم على ظهور الله في صورة يسوع الإنسان، ومن ثمّ أوجدت تصوّفاً تحضر فيه الوساطة اليسوعية باستمرار[1].
تمرّدٌ على الفهم المُجرّد
كما أطّر الفقهاءُ الإسلامَ بالخطوط الحمراء، نظّر آباء الكنيسة من الفلاسفة المسيحيين، وبشكلٍ مُحكم، لأبجديات هذا الدين، فكان من الصعب القول بمعارضتها أو القفز عليها.
كان في هذا الصّدد خطّان رئيسيان مثّلا، لفترة طويلة، الوجه الوحيد للدين المسيحي: الاتجاه الأفلاطوني (المدرسة الواقعية) والاتجاه الأرسطي (جماعة الفلاسفة الإسميين).
اقرأ أيضا: الأمن الروحي… مفهوم “مستحدث” لمواجهة التطرف أم حجر على حرية التعبير؟ 2/1
هذه التّصورات التقليدية جعلت من الدين نظريات مُجرّدة، مُتعالية، ليس للإنسان سوى أن يُذعن لها… ومن ثم، تفتقد إلى العاطفة.
والعاطفة جوهر الطرح الصوفي… ولأجلها أعلن التمرد على كل الأدبيات تلك وخاض في مسارات مغايرة تماما.
كُتب السيرة توضح كيف كان رسول الإسلام يضع المتصوفة المسيحيين موضع تقدير واحترام… وربما كان في ذلك رافدٌ صَقلَ المنظومة الروحية لمتصوفي الإسلام لاحقا.
التصوف في أوروبا نشأ، ببساطة، كـ”ردّ فعل ضد الدراسات الميتافيزيقية المجردة والمنطقية وضد ما يسمى بـ”التفكير الموضوعي” لصالح شيء واحد يحتاجه المسيحي، وهو الخلاص من خلال الاتحاد بالله”[2].
الواقع أن الانشقاقات التي عرفها هذا الدين بعد قرنه الأول -وبعضها كان بدافع سياسي-، أكّدت لبعض رجال الدين آنذاك أن المسيحية قد ابتعدت عن جوهرها…
من ثم، أخذوا في الانزواء لتلافي هذه الصراعات التي تمس بالدين، فتحوّلوا إلى زُهّاد يعمّرون الكنائس والصحارى… إلى أن ظهر التصوف في المسيحية.
كان العهد بهم بعد ظهور الإسلام أيضاً، وكُتب السيرة توضح كيف كان رسول الإسلام يضعهم موضع تقدير واحترام… وربما كان في ذلك، يذكر عبد الرحمن بدوي[3]، رافدٌ صَقلَ المنظومة الروحية لمتصوفي الإسلام لاحقا.
منذُ البدء كان… وقد اندثر الآن!
ظهر بعض مُعلّمي اللاهوت الروحي مثل أوريغانوس وأوغسطينوس منذ أزمنة المسيحية الأولى… هؤلاء، إضافة إلى آخرين، هم أوّل من بدأ التصوف في هذه الديانة من خلال القطع مع الفهم المجرّد لـ”النصوص المقدسة”.
حمل المشعل بعدهم أشخاص عدة ليبلغ فترة ازدهاره إبان العصور الوسطى، مع ظهور شخصيات أسهمت على نحو بارز في تطويره… مثل الألماني ميستر إكهارت (المُعلم إكهارت).
مرمى التصوّف، في نهايته، الوصولُ إلى حالة من الطهارة والقداسة تُرمّم ما كسرته خطيئة آدم بين الإله والإنسان.
كان إكهارت، بالمناسبة، أحد أوائل من قدّموا آراءهم باللغة الألمانية بدلا من اللاتينية التي كانت لغة العلم والمعرفة آنذاك…
لم تستثن إكهارت مطارداتُ رجال الدين الفكرية… كانت مؤلفاته مرفوضة تماما لدى الكنيسة؛ نوعا من الهرطقة، صدر في حقها قرار قضائي بعدم التداول والحرق عمليا.
التعصب الذي أبداه رجال الكنيسة، آنذاك، كان نابعا في الحقيقة من الخوف على المكانة التي كانوا يتمتعون بها، لا من الخوف على الدين في حد ذاته.
اقرأ أيضا: حسن الحو يكتب: الإيمان بين التسليم والتدليل… ماذا لو؟!
غير أنّ ذلك كان فاتحة انتشار إكهارت، فالأطروحات التي قدمها، لم تكن معهودة من قبل، ومثلت الملهم الأكبر للمتصوفة الذين جاؤوا بعده… وكما يُقال، كلّ ممنوع مرغوب.
من هذه الأطروحات، مثلا، أن الاتحاد بالله لا يمر عبر الأقانيم[4]… وهذه رؤية مناقضة تماماً للرؤية المؤسّسة في المسيحية.
البعض يقول إنّ التصوّف في المسيحية، بالفهم الذي قدّمناه، قد انتهى وأخلى مكانه لـ”الرّهبنة”.
كان تصوّف المعلّم لا يذعن لسلطة الكهنوت؛ جوهرُ المسيحية عنده “حنينٌ حار إلى التحرر نهائيا من عوائق النفس حتى لا تعرف شيئا ولا تريد شيئا ولا تفكر في شيء إلا الله”.
لبلوغ ذلك، كما لدى متصوفة الإسلام، كان الزهد مُنية منهج إكهارت. ومن مواعظه:
“إننا قد تشكلنا في الله، وتغيرنا في الله، وبالمعرفة أحصل على الله داخل ذاتي، وبالحب أدخل في الله”.
وهذه اليومَ، ولظروفٍ كثيرة مرّت بها المسيحية، بعضٌ من صفات الرّهبان، الذين اعتزلوا الحياة وتفرّغوا للعبادة… حتى إنّ البعض يقول إنّ التصوّف في المسيحية، بالفهم الذي قدّمناه، قد انتهى وأخلى مكانه لـ”الرّهبنة”.