التعليم والحق في الغش 2\2
لم يتوقف تبني الغش كقيمة اجتماعية عند مستوى اللغة، وإنما تحول إلى سلوك يومي يتمظهر في مختلف جوانب الحياة
تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال عن التحولات الاجتماعية والديمغرافية التي عرفها المغرب في السنوات الأخيرة، وعن فشل الحكومات المتعاقبة في تقديم منظومة تعليمية وإعلامية تواكب تطور المجتمع.
نتابع في هذا الجزء الثاني النقاش حول تنامي ظاهرة الغش واكتسابه طابع الحق والمشروعية من طرف الكثيرين.
إذا كان السياسي الذي يُنتظر منه التفاني في خدمة البلاد والعباد يقول ما لا يفعل، ويفعل عكس ما يقول، ويضع مصلحته فوق مصلحة الوطن، ويعبث بالمال العام، دون محاسبة ولا محاكمة ولا جزاء؛ وإذا كان بعض من استفادوا من أصوات المواطنين بدعوى القرب من الشعب، والنزاهة والعزم على محاسبة المفسدين، سيخرجون ذات ثرثرة ليكشفوا للمواطنين ما كانوا يعرفونه قبل أن يفتح هؤلاء حوانيت تجارتهم السياسية ليقولوا لهم على سبيل المثال: “هناك ملفات فساد كبرى، لكن عفا الله عما سلف!”، فمن أين سيأتي الشباب بالنموذج، ومن أين سيدرك أن القيم التي يحاول المدرسون تلقينهم إياها ليست مجرد تخاريف رومانسية؟!
إذا كان معظم الكبار يغشون ويكذبون ويناورون ويراوغون، فمن أين سيتعلم التلاميذ والأبناء عموما قيمة الإخلاص في العمل وفي الحياة وفي العلاقات؟
إذا كان الكثير من الموظفين يتغيبون عن عملهم بدون مبرر، أو يصلون إليه متأخرين ويغادرونه قبل الأوان، أو لا يقومون بعملهم على الوجه المطلوب، فمن أين سيأتي الشباب بالنموذج؟!
إذا كان المدرسون يعطون الأولوية للساعات الإضافية والدروس الخصوصية لترقيع رتوقهم المادية على حساب عملهم الأصلي في التعليم العمومي وخدمة أبناء المواطنين، فكيف سيثق الشباب في خطاباتهم الجوفاء عن الأخلاق والقيم والنزاهة، وهلم زغاريد؟!
اقرأ أيضا: لا تبيعوا الوهم للمغاربة! التعليم عن بعد…. لا زال بعيدا كل البعد
باختصار، إذا كان الكبار، معظم الكبار يغشون ويكذبون ويناورون ويراوغون، فمن أين سيتعلم التلاميذ والأبناء عموما قيمة الإخلاص في العمل وفي الحياة وفي العلاقات؟
ألا يصبح الغش في هذه الحالة قيمة اجتماعية محمودة ومكونا من مكونات قيم المجتمع، بل ألا يصبح الغش حقا من حقوق المواطن العادي، “يناضل” من أجله، وينفق الوقت في تعلم أساليبه، ويضحي من أجله بالغالي والنفيس؟
إذا كان المدرسون يعطون الأولوية للساعات الإضافية والدروس الخصوصية لترقيع رتوقهم المادية على حساب عملهم الأصلي في التعليم العمومي وخدمة أبناء المواطنين، فكيف سيثق الشباب في خطاباتهم الجوفاء عن الأخلاق والقيم والنزاهة، وهلم زغاريد؟!
يكفي أن ننصت إلى الصورة الإيجابية التي يرسمها المتخيل الجمعي للغشاشين، لكي ندرك أننا تهاونا كثيرا إلى أن استقر الغش بيننا بمفرداته وتعابيره: فاللغة الجمعية تحقر الجدي وتتندر عليه فتسميه: “القرَّايْ” نكاية في تفانيه في الدراسة، أو “البوجادي” أو ” الخمگي” أو “لخضر” إذا كان لا يغش في عمله، أو “التران” إذا كان معقولا لا يراوغ، لأنه كالقطار لا يخرج عن السكة. أما الغشاش فسلوكه محمود وهو رمز للذكاء واليقظة، ولذلك يخصه العقل الجمعي بنعوت توحي بالحيوية والقوة والذكاء وسرعة البديهة، وذلك من قبيل: “عايق”، “فايق”، “نْزق”، “مسمار”، “قوالبي”، “عْـويفْيَة”، “جَنْ”،..إلخ[1].
لم يتوقف تبني الغش كقيمة اجتماعية عند مستوى اللغة، وإنما تحول إلى سلوك يومي يتمظهر في مختلف جوانب الحياة. فبينما أنت تقف في الصف بإحدى الإدارات، يأتي واحد ” قويفز” أو وحدة “قويفزة” فيتسلل متجاوزا كل من سبقوه، بدعوى الرغبة فقط في السؤال، أو العجلة، أو تحية الموظف الذي يعرفه، وأحيانا بدون أي ادعاء، إنما فقط، بالتحلي بوجه من قصدير، وعقل من زليج وأخلاق من قمامة.
اقرأ أيضا: سكان العالم القروي في زمن كوفيد 19… حياتنا عبء على السياسي
نفس السلوك نشهده يوميا في قيادة السيارات، حيث يتحين بعضهم أدنى مسافة سلامة تتركها لينزلق أمامك، بضربة “نْزق”، معرضا سلامتك والآخرين للخطر: أخلاقٌ خُردة حُصل عليها بالمجان. وإذا ما وقعت زحمة سيارات، “بوشون”، ترى هؤلاء ” القوافزية” زبناء الغش، يتجاوزون على اليمين وعلى هامش الطريق كل السيارات المنتظرة في سلوك متحدِّر من أوسخ جوطية قيم.
نفس السلوك تراه أيضا لدى من يستعملون المنبه عند إشارة الضوء الأحمر وهم خلف عاشر سيارة من الضوء، ولسان حالهم يقول: ” كن قافز أصاحبي، حرق باباه هداك الضوء”، لأنهم مستعجلون، وعلى دراية عالية بالسياقة القافزة.
لن نتفاجأ يوما إذا ما خرجت الجماهير الشعبية ذات يوم تحمل لا فتات ملونة، ومكبرات صوت وتطالب بحقها في الغش
ولأن الوضع وصل إلى هذا الحد من التردي، فإن الكثير من المواطنين لم يعودوا يحبون التسوق في المتاجر الشعبية ولا في المدينة العتيقة، ولم يعودوا يحبون زيارة المدن المغربية، ويفضلون – على مضض -التسوق في المتاجر الكبرى، حيث الأسعار معلقة على البضائع، ويسافرون إلى الخارج متى استطاعوا إلى ذلك سبيلا، لأنهم في كل خطوة في بلدهم يحسون أن الغش يتربص بهم. أما إذا أرادوا الذهاب إلى إدراة عمومية، فإنهم يقرؤون المعوذتين، ويضعون على أعناقهم آية الكرسي، ويقتبسون شخصيات رجال مهمين، حتى يفرضوا احترامهم على الآخرين، “إِ صامارْش”، لأن الكثيرين يخافون ولا يستحيون!
اقرأ أيضا: عبد الإله أبعصيص: أنا سيئ الأخلاق وأنتم…كذلك
في هذا السياق القذر، لن نتفاجأ يوما إذا ما خرجت الجماهير الشعبية [وهذا “تعبير بوجادي” ] ذات يوم تحمل لا فتات ملونة، ومكبرات صوت وتطالب بحقها في الغش، في إطار المساواة والعدالة الاجتماعية، ولسان حالها يقول: “أحلال عليكم حرام علينا، إِوى لَواهْ، ادْوِيوْ عْلينا أو جِيوْ عْلينا” [شخصيا لا أفهم هذه العبارة الأخيرة، ولكن لا باس من نقلها، “فناقل الكفر ليس بكافر”].
لا أقول هذا عبثا؛ فعندما تعترض جماعة من تلاميذ الباكلوريا طريق أستاذ كلفته الدولة بالحراسة في الامتحانات وأعطته تعليمات بالحرص على عدم غش التلاميذ في الامتحانات، وشرِب الدعاية التلفزيونية التي تحذر من الغش، ورأى عند مدخل المؤسسة تلك اللافتات التي تؤكد عزم الدولة على نزاهة الامتحانات، فنفذ التعليمات بحال “التران”، وحرم فلذة الأكباد من حقهم في الغش، وهم الذين قضوا الليالي الطوال في إعداد العدة ونسخ الدروس في وريقات صغيرة جدا، وقد اقتسموا المهام في ما بينهم بخطة متقنة يعجز عن الإتيان بمثلها عتاة السياسة… عندما تعترض شرذمة من التلاميذ أستاذا بهذه النزاهة وهذا الإخلاص في العمل، وهذا الإيمان بأن الوطن يبنى بالاستحقاق والجد والتفاني في العمل، فتعتدي عليه جسديا لتكسر وجهه وتحطم عظامه… عندما تقوم هذه الشرذمة بها السلوك الشنيع، فهي إنما تعبر عن الدفاع عما استقر في أدمغتها أنه حق لها، وأن هذا الأستاذ عدو ” للطبقات الشعبية” يريد تأبيدها في الفقر، وحرمانها من ضمان مقعد لها بين الغشاشين!
لا يمكن طبعا إلا التضامن اللامشروط مع الأستاذ المتضرر، وتمني الشفاء له، والمطالبة بمعاقبة الجناة وفقا لمقتضيات القانون.
في نفس الوقت، فإننا لا نأمل أن تؤدي عقوبة الجناة وحدها إلى ردع غيرهم أو تغيير الواقع الموبوء، كما لا نأمل في أن تفيد تحذيرات وزارة التربية الوطنية أو وزارة الداخلية في تغيير العقليات، وإن كانت قد تفيد في الحد من استفحال الظاهرة. إن كل هذه الإجراءات مجرد مراهم ومسكنات آنية لا تستأصل الداء، لأن الدواء الحقيقي يكمن في إصلاح منظومة التعليم بدء بتوفير البنيات التحتية وتحسين أوضاع المدرسين، وإرجاع الهيبة والمصداقية للمدرسة العمومية التي أخرجت لهذا الوطن أطره الأولى من أجيال الستينيات والسبعينيات وبدايات الثمانينيات، ولأن الحل يكمن أيضا في إعطاء النموذج في السياسة والوظيفة العمومية والحياة اليومية من خلال معاقبة المخالفين والغشاشين والمفسدين أيا كان مستواهم. محاربة الغش تبدأ من التوقف عن الخطابات الجوفاء سياسية كانت أم دينية، والعمل على تقوية دعائم دولة الحق والقانون والمحاسبة الصارمة.
[1] ـ أشكر صديقي عماد من حي يعقوب المنصور بالرباط الذي مدني ببعض من هذه النعوت.