“الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: هكذا كان ينظر المغلوبون إلى السراسنة (العرب) قبل “الفتوحات”! 7/2
لا تظهر الشعوب فجأة على مسرح التاريخ… كذلك كان حال العرب، الذين ربطتهم علاقات وثيقة بباقي المراكز الحضارية المحيطة بالجزيرة العربية، إن في التجارة أو ما رافقها من تبادل للثقافة.
بعد الجزء الأول الذي تلمسنا فيه الحاجة إلى إعادة تقييم التاريخ العربي-الإسلامي، قصد كسر قوالب هذا التاريخ الجاهزة، التي تصنع حاضر العرب اليوم على نحو ينأى بهم عن العالم… نخوض ابتداءً من هذا الجزء، الثاني، في كتاب الباحث اللبناني حسام عيتاني، “الفتوحات العربية في روايات المغلوبين”، الذي نستلهم هذا الملف من بين طياته لنتعرف على الرواية الأخرى لـ”الفتوحات”، باعتبارها الحدث المؤسس للتاريخ العربي-الإسلامي.
لا تظهر الشعوب فجأة على مسرح التاريخ… كذلك كان حال العرب، الذين ربطتهم علاقات وثيقة بباقي المراكز الحضارية المحيطة بالجزيرة العربية، إن في التجارة أو ما رافقها من تبادل للثقافة.
لكن المصادر التاريخية للشعوب المغلوبة في “الفتوحات” لم تتفق على أصل العرب وفصلهم، كما لم تجمع على صفاتهم ولا على أسمائهم.
كان المؤرخ أوسابيوس (أبو التاريخ الكنسي) أول من اعتبر السراسنة شعبا من الشعوب التي تحدث عنها التوراة؛ أي أبناء إسماعيل، وبالأحرى؛ الأمة التي “حرمت من الوعد الإلهي” (أرض الميعاد).
كان هذا حال المؤرخين الإغريق والرومان، الذين تعرفوا على العرب قبل الإسلام، وحال المصادر المتأخرة عن “الفتوحات” أيضا.
أسماء هؤلاء الغزاة، أي العرب، كانت متعددة وأكثرها شيوعا: السراسنة، الطائيون، الهاجريون، الإسماعيليون.
الإسماعيليون هنا لا يقصد بهم الفرقة التي ظهرت لاحقا، إنما نسل إسماعيل الذي ولد لإبراهيم من هاجر، التي كانت خادمة لزوجته سارة حسب الترجمات المختلفة للتوراة.
أما اسم السراسنة، فليس قريبا إلى الفهم، وقد ورد للمرة الأولى في الأدب اليوناني القديم، فيما يبدو أنه إشارة إلى قبيلة معينة في صحراء سيناء.
اقرأ أيضا: إبراهيم… حكاية “نبيّ” يوحد الديانات الثلاث 3/1
وإذا كان بالإمكان أن نستنتج من الكتابات الإغريقية أنها دمج لمفردة Sarak، وEnos التي ترفق للنسبة، إلا أن معنى المفردة الأولى ظل غامضا؛ فالبعض يعتقد أنها تعني الشرق، والبعض أنها اسم لقبيلة السواركة التي كانت قديما اسما لمكان شمال يثرب (المدينة).
البعض الآخر لا يستبعد أيضا أن تكون مشتقة من جبل السراة في الحجاز، فيما اعتقد آخرون أنها مشتقة من كلمة صحراء.
الواقع أن الأوروبيين أبدوا امتناعا عن تسمية المسلمين بـ”المسلمين”، مفضلين صفات عرقية أو قبلية، في محاولة للتقليل من الدين الإسلامي؛ فسموهم السراسنة أو المورو، أو الأتراك أو غيره.
بيد أن المؤرخ أوسابيوس (أبو التاريخ الكنسي)، كان أول من اعتبر السراسنة شعبا من الشعوب التي تحدث عنها التوراة؛ أي أبناء إسماعيل، وبالأحرى؛ الأمة التي “حرمت من الوعد الإلهي” (أرض الميعاد).
هذه النقطة بالمناسبة ستكون مهمة في فهم الشعوب المغلوبة لأسباب “الفتوحات”.
استخدام اسم السراسنة توسع في القرون الوسطى من البيزنطية إلى الغرب عموما، بعد نقلها من اللاتينية وتحويلها من Sarakenos إلى Saracens، لتشير إلى الشعوب المسلمة.
اقرأ أيضا: حوار الحضارات من خلال أدب الرحلات 1\2
الواقع أن الأوروبيين أبدوا امتناعا عن تسمية المسلمين بـ”المسلمين”، مفضلين صفات عرقية أو قبلية، في محاولة للتقليل من الدين الإسلامي؛ فسموهم السراسنة أو المورو، أو الأتراك أو غيره.
… وكذلك فعل المسلمون حيال الشعوب التي احتكوا بها، كتفضيلهم تسمية “الفرنجة” مثلا.
يشير المؤرخ البيزنطي سوزومن إلى أن العرب ربما تعرفوا من خلال المسيحية على علاقتهم بإسماعيل، فاتبعوا اليهود في عدد من طقوسهم، إذ اختتنوا وامتنعوا عن أكل لحم الخنزير…
مع ذلك، ظلت هاجر تطارد العرب، إذ كان عربُ سوريا يسمّون جميع العرب بالهاجريين، فيما استخدم المسيحيون في سوريا كلمة طايي أو طائي لدى الحديث عن العرب، نسبة إلى قبيلة طي المعروفة، التي كانت بعض بطونها قد تنصّرت. ويبدو أن الفرس هم من عمموا تسمية الطائيين على العرب.
هاجر بالمناسبة وإن كانت لا تحتل موقعا مهما في النص الإسلامي، إلا أنها بالنسبة للشعوب التي جاءها العرب غزاة، إسوة بابنها إسماعيل، يحتلان موقعا مهما لما كان مسيحيو الشرق ويهودها يعلمونه عن هاتين الشخصيتين من نصوص العهد القديم.
اقرأ أيضا: إبراهيم… مَن الذبيح مِن ابنيه، إسماعيل أم إسحاق؟ أكثر من مجرد اختلاف! 3/3
يشير المؤرخ البيزنطي سوزومن إلى أن العرب ربما تعرفوا من خلال المسيحية على علاقتهم بإسماعيل، فاتبعوا اليهود في عدد من طقوسهم، إذ اختتنوا وامتنعوا عن أكل لحم الخنزير أيضا، قبل أن ينحرفوا عن الالتزام بالطقوس اليهودية تحت تأثير الزمن والأمم المجاورة.
الذي يهمنا هنا أن المعرفة بالأصل الإسماعيلي، منحت العرب هوية جديدة؛ إذ جعلتهم ينظرون إلى أنفسهم -على الأقل- كشعب من الشعوب التوراتية.
الشعوب التي شملها غزو الفاتحين العرب نظرت إلى هؤلاء بصفتهم كارثة حلت عليها، ولم تُبدِ اهتماما بالتعرف إلى معتقداتهم وأفكارهم، وأقل منها طرق معيشتهم وبناهم الاجتماعية والسياسية والثقافية، إلا عندما استقر العرب في العراق وإسبانيا وبلاد الشام.
في غضون ذلك، دان كثير من العرب بالمسيحية، وربما يكون اعتناق هذا الدين الجديد، محاولة للتخلص من السمعة التي وسم بها التوراة العرب بالتحدر من هاجر؛ الخادمة.
ويرى سوزومن أن العرب الذين لم ينتقلوا إلى المسيحية، وشكلوا لاحقا الأرضية التي ظهر الإسلام عليها، لم يجدوا حرجا في التحدر من إسماعيل، لكن مع التشديد على أن نسبهم الحقيقي يتصل بإبراهيم، لا بجاريته وابنها.
اقرأ أيضا: “حُروب الرّدة”… وجهة نظر أخرى! 2/2
مع ذلك، ظلت بلاد العرب الأصلية، التي انطلقت منها “الفتوحات”، غامضة في مصادر المغلوبين. الواقع أن مسألة “الغزاة” و”الفاتحين” ظلت تاريخيا لا تشغل بال الشعوب التي تعرضت للغزوات.
الشعوب التي شملها غزو الفاتحين العرب نظرت إلى هؤلاء بصفتهم كارثة حلت عليها، ولم تُبدِ اهتماما بالتعرف إلى معتقداتهم وأفكارهم، وأقل منها طرق معيشتهم وبناهم الاجتماعية والسياسية والثقافية، إلا عندما استقر العرب في العراق وإسبانيا وبلاد الشام.
وحتى عندما اتجه علماء الغرب في القرن السابع عشر إلى إعادة اكتشاف العرب، وجدوا أن النصوص العربية، التاريخية والدينية، لا تساعد على وضع رواية متسلسلة منطقيا لعلاقة العرب كشعب موجود في الواقع، مع العرب الذين تحدث عنهم التوراة.
اقرأ أيضا: الحنيفية: عن دين إبراهيم في “الجاهلية”! 3/1
تبرز في هذا السياق كلمة لطالما أثارت اهتمام العلماء دون أن يعثروا لها على تفسير. هذه الكلمة هي “حنيف”، التي كان يمكنها أن تكون مفتاحا لشرح انتقال الدين الإبراهيمي إلى العرب.
العرب لم يكونوا مجهولين عند جيرانهم… كانت هجماتهم البدائية مألوفة. لكن اتساع نطاق “الفتوحات” كان مفاجئا ولم تلحظه الشعوب الأخرى فورا بسبب ما ترسخ في ذهنها من صورة سلبية عن السراسنة، بل ولم تفهم مضمون الأمر الديني لتلك “الفتوحات” حتى.
جانب آخر تشير إليه المصادر العربية القديمة ويهمله المؤرخون العرب المعاصرون، هو ذلك المتعلق بتركيبة جيوش الفتح العربية من الناحية البشرية.
تفتح هذه الملاحظة باب نقاش لم يستوف حقه عن وجود الكثير من المسيحيين بين الوافدين العرب: ممن تألفت جيوش “الفتح” سواء على المستوى الديني أو العرقي؟
المصادر العربية تحدثت بإسهاب عن انتماءات هؤلاء القبلية، لكن المعلومات شحيحة عن الانتماءات الدينية لهؤلاء الذين شاركوا في الموجة الأولى من الفتوحات.
كان يومها كثير من أكبر قبائل العرب يدين بالمسيحية على اختلاف كنائسها، مثل تغلب ولخم وجذام وأياد وأخرى عديدة. لكن ثمة حلقة غائبة هنا، مثلا: في حين هاجرت أياد إلى عمق الأراضي البيزنطية رافضة الإسلام، شاركت تغلب، الأكثر عددا، في الفتوحات!
اقرأ أيضا: هؤلاء 10 من أشهر شعراء العرب… يهود ومسيحيون في زمن الجاهلية! 2/1
نفهم مما تقدم إذن أن العرب لم يكونوا مجهولين عند جيرانهم… كانت هجماتهم البدائية مألوفة. لكن اتساع نطاق “الفتوحات” كان مفاجئا ولم تلحظه الشعوب الأخرى فورا بسبب ما ترسخ في ذهنها من صورة سلبية عن السراسنة، بل ولم تفهم مضمون الأمر الديني لتلك “الفتوحات” حتى.
ثم حدث ذات يوم أن حل الرعب محل الاحتقار الذي أبدوه نحو العرب، وكان ذلك مع انطلاق “الفتوحات” بين مكة والفرات!
في الجزء الثالث… بين التفسيرات اللاهوتية والواقعية، لماذا حدثت “الفتوحات” في نظر المغلوبين؟
لقراءة الجزء الأول: “الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: نحو إعادة تقييم التاريخ العربي-الإسلامي 7/1
لقراءة الجزء الثالث: “الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: بين التفسيرات اللاهوتية والواقعية… لماذا حدثت “الفتوحات” في نظر المغلوبين؟ 7/3
لقراءة الجزء الرابع: “الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: سقوط القسطنطينية وبداية سيادة العرب المسلمين خارج شبه الجزيرة… 7/4
لقراءة الجزء الخامس: “الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: “فتح مصر” 7/5
لقراءة الجزء السادس: “الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: “فتح إيران” 7/6
لقراءة الجزء السابع والأخير: “الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: مؤامرة يهودية؟ 7/7