من مصر، سارة أحمد فؤاد تكتب: لكن، لماذا نكتب؟
أكتب لإحداث الضوضاء، لأن أشخاصًا قد أخذوا على عاتقهم مهمة إيقاع الأذى ببعض الضعفاء اعتمادًا على صمت الآخرين وتغاضيهم وانشغالهم. لذلك أكتب، أنا وغيري، لتوجيه رسالة واضحة لهم… رسالة مفادها أن ما تقومون به لن يمر بصمت، وكفى!
لسبب خفي، كنت أعتزم التواصل مع سناء العاجي، مديرة موقع مرايانا، لأسألها أولًا عن الذكرى السنوية لتأسيس الموقع، ولأقترح عليها فكرة جديرة بعيد ميلاد مرايانا؛ فأعياد الميلاد موحية دائمًا، ومناسبة لطرح الأفكار والأسئلة، ولإلقاء نظرة متسامحة عما تم إنجازه في العام المنصرم، ونظرة متفائلة تجاه ما نعتزم إنجازه في العام الجديد.
كنت أفكر في اقتراح طريقة مبتكرة للاحتفال بالموقع، من خلال دعوة المؤلفين المشاركين في الكتابة على موقع مرايانا لسرد خبرتهم الشخصية عن السبب الذي يدفعهم للكتابة على الموقع. لكن للأسف، تأخرت خطتي أكثر من اللازم، وها قد جاء عيد ميلاد مرايانا دون أن أقدم فكرتي الاحتفالية!
الأوان لم يتأخر بعد، ومازالت لدي الفرصة كي “ألعب لعبتي المشاكسة” وأن أحتفل بالذكري السنوية على طريقتي، وأن أجيب بنفسي عن هذا السؤال: لماذا أكتب؟
يقولون إننا نكتب لأن لدينا ما نقوله للعالم: هل أبدو لكم كشخص لديه ما يقوله للعالم؟ أدّعي أنني أكثر حكمة من ذلك.
يراودني هذا السؤال كثيرًا: لماذا أكتب؟
قد يراود هذا السؤال البعض من الكتّاب بصيغة استفهامية، وقد يراودهم بصيغة استنكارية، ومن الممكن أن يراودهم بصيغة ساخرة. لكن معي، أستطيع أن أؤكد أن هذا السؤال لا يراودني سوى في صيغته الاستفهامية، حتى الآن! لكن، قبل أن أجذبك لرحلة داخل عقلي، عزيزي القارئ، دعني أقوم بالتعريف بنفسي بالشكل الملائم.
اقرأ لنفس الكاتبة: الحب في زمن الفيروس*
لا أميل للتعريف بنفسي ككاتبة، وأفضل استخدام صيغ أخرى، كناشطة مدنية، أو مدونة، أو سيدة تمتلك الكثير من وقت الفراغ بما يكفل لها إزعاج الآخرين، إلخ…
عضلات يدي الضعيفة جعلت خطي سيئًا للغاية طوال سنواتي الدراسية. لا أتذكر عدد المرات التي طلب مني معلميني أن أتوقف عن (الشخبطة). وكنت أنتظر لحظة انتهائي من الدراسة بفارغ الصبر كي أحقق لهم أمنيتهم العزيزة، حتى أنهيت دراستي الجامعية لأقرر أنني لن أمسك بالقلم مرة أخرى.
كل ما سبق لا يجيب عن السؤال الأساسي، لكنه قد يجعلك مستعدًا للفقرة التالية.
شهوة الحرف: تعددت الأسباب، والمقال واحد:
في رحلتي للبحث عن إجابة لسؤال “لماذا أكتب”، وضعت قائمة من الاحتمالات التي قد تصلح للإجابة على هذا السؤال، وذلك استنادًا على خبرة كاتبين آخرين:
يقولون إن للكتابة شهوة، أي رغبة خفية تدفعك دفعًا لأن تكتب. هل هي ما أشعر به ويدفعني للكتابة: لا، للأسف!
منذ ذلك الوقت، وأنا أكتب، فقط كي أزعج هؤلاء الذين لا يرغبون في وجود صوت غير صوتهم الخاص، أو الصمت المطبق.
يقولون أيضًا إننا نكتب وننشر توقًا للشهرة! حسنًا، لا يعبر ذلك عني أيضًا، فمازلت أعتقد أن مقالاتي لا يقرؤها أحد -بخلاف محررتي بالطبع!
يقولون إننا نكتب كي لا ننفجر: عجبًا! أنا لا أتوقف عن الكتابة، وكذلك لا أتوقف عن الانفجار! لم تحمني الكتابة من الانفجار بالمناسبة.
اقرأ لنفس الكاتبة: سارة حجازي… ومن الاكتئاب ما يقتل!
يقولون إننا نكتب لأن لدينا ما نقوله للعالم: هل أبدو لكم كشخص لديه ما يقوله للعالم؟ أدّعي أنني أكثر حكمة من ذلك.
نكتب كي نغير البشر من حولنا: من أرغب في تغييرهم جميًعا لا يجيدون القراءة أو الكتابة، رغم أن بعضهم يحمل درجات علمية مرموقة.
نكتب لإرضاء الضمير: صدقًا، ضميري يشعر بالكثير من الراحة دون أن أضطر للكتابة.
مرة أخرى، هذا لا يجيب عن السؤال، بل يجعله أكثر تعقيدًا.
ما بين المقال الأول، والمقال الأخير:
أتذكر تجربتي الأولى على مرايانا، عندما قدمت مقالي الأول عن قيادة النساء للسيارات في السعودية، وكيف كان العالم والمملكة يحتفلون بذلك التغيير الثوري في القانون السعودي والمفارقة في كون الناشطات السعوديات اللواتي رفعن راية “السماح للنساء بقيادة السيارات في المملكة”…كن قيد الاعتقال؛ وهو ما كان نفس موضوع مقالي الثاني على الموقع عن محاكمة الناشطات السعوديات وكيف يتم التنكيل بهن فقط لأنهن طلبن التغيير.
في ذلك الوقت، كان النظام السعودي يبذل جهده لتشويه صورة الناشطات واتهامهن بأبشع التهم المخلة بالشرف، رغم أنهن قيد الاعتقال، ومحرومات من أبسط الحقوق القانونية. عندها، أدركت أن هناك من يشعر بالضيق البالغ بسبب كلماتنا التي لا تزيد عن (صوت صارخ في البرية) وبلا مجيب!
منذ ذلك الوقت، وأنا أكتب، فقط كي أزعج هؤلاء الذين لا يرغبون في وجود صوت غير صوتهم الخاص، أو الصمت المطبق.
نعم، لذلك أكتب…
لا أميل للتعريف بنفسي ككاتبة، وأفضل استخدام صيغ أخرى، كناشطة مدنية، أو مدونة، أو سيدة تمتلك الكثير من وقت الفراغ بما يكفل لها إزعاج الآخرين، إلخ…
أكتب لإحداث الضوضاء، لأن أشخاصًا قد أخذوا على عاتقهم مهمة إيقاع الأذى ببعض الضعفاء اعتمادًا على صمت الآخرين وتغاضيهم وانشغالهم. لذلك أكتب، أنا وغيري، لتوجيه رسالة واضحة لهم… رسالة مفادها أن ما تقومون به لن يمر بصمت، وكفى!
نكتب ضد السلطات السعودية التي اعتقلت لجين وعزيزة وإيمان لقيادة السيارة، والسلطات المغربية التي تحاكم هاجر الريسوني على إرادتها الحرة، وضد هؤلاء الذين يحتقرون المرض النفسي ولا يعترفون بالآلام النفسية.
نكتب ضد عنصريتنا وحماقتنا الخاصة في إدارة المعارك أيضًا.
نكتب، لا لإقناعهم، أو لحثهم على التوقف، بل فقط لأنهم يكرهون ما نكتبه، ويتضايقون منه كثيرًا.
اقرأ لنفس الكاتبة: عزيزتي هاجر، فلتسقط إرادتك!
عندما أوشك على التوقف عن الكتابة، أتذكر أن شخصًا ما سوف يشعر بالغيظ والضيق من كلماتي البائسة التي لا يقرؤها أحد، وسوف يشعر أن هذا العالم ليس ملكًا له ليصول ويجول فيه كما يشاء. بل أن هناك في نهاية الصف فتاة قصيرة ترتدي منظارًا طبيًا كبيرًا وتقف صامتة ترفع لافتة احتجاجية كُتب عليها (لا)، ولذلك أستمر.
مازالت المعادلة بسيطة، سنتوقف عن الكتابة عندما تتوقفون عن الكذب باسم الدين وإساءة استخدام السلطة باسم الأخلاق ومحاولة فرض السيطرة على أجسادنا وعقولنا دون وجه حق.
توقفوا فأتوقف؛ وإن تعودوا، أعود..
وللحين، نعدكم أننا سنستمر في إحداث الضوضاء إلى أجل غير مسمى…
سنة جديدة سعيدة لمرايانا!
اقرأ أيضا: إتلاف الكتب في صدر الإسلام… هذه حكاية نبذ العرب للكتابة 3/1