أحمد الخمسي يكتب عن الرجل الذي ألهمه “بداية همنا مع أمريكا”: مولاي أحمد “ولد البلاد”
لو كان مولاي أحمد في الولايات المتحدة الأمريكية، لكان مطابقا للبطل المناسب في قوامه لشخوص هوليود. من حيث لياقة دماغه، لا هو محافظ منغلق ولا هو مملوء بالأنماط المحنطة، لكن …
لو كان مولاي أحمد في الولايات المتحدة الأمريكية، لكان مطابقا للبطل المناسب في قوامه لشخوص هوليود.
من حيث لياقة دماغه، لا هو محافظ منغلق ولا هو مملوء بالأنماط المحنطة، لكن في جميع الأحوال، تشعر، وأنت تستمع لتعليقاته السوريالية وتفسيراته اللغوية لأبسط العبارات المتداولة بمعاني ساخرة، أن له فلسفة ما في الحياة. يمارس رياضة اللعب بالكلمات وقلب الصيغ الموروثة. تكاد ترى فيه الحلاج من حيث العبارة الشهيرة “أنا الحق”. بالمعنى الفلسفي، قتل الوصي على دماغه، ولو كان له أب موسر غني الثقافة لكان مثل ابن عربي الشيخ الأكبر. ومن حيث رشاقته ونمط لباسه، تلك الشخصية ما بين 170 سنتم و70 كلغ. مع لباس عصري “كوول”، بلا تكلف ولا إهمال. فقط، ركن إقامته الدائم جنب جذع شجرة التوت رفقة “كرطونه” هو الذي ينبئ بمهنته الهامشية.
يجسد ابن البلد الذي ضربت عائلته “الجايحة” الاقتصادية (ربما؟) فسخِر من النظام الاجتماعي في مجمله. عزيز النفس. في إحدى أيام الجمعة، وقد ألفت الوقوف بجانبه، نزلت من الطاكسي فعزمت على تسليمه “حقي” من الكسكس الذي كنت أحمله بعد انتهاء زيارة عائلية، لكنه اعتذر وادعى أنه شبع في غير ما حاجة للأكل. أحسست أني قمت بالواجب وربحت الكسكس سالما. فكرت مرات وتساءلت ما إذا كانت له عائلة لا أعرف أفرادها ولم أر واحدا منهم يوما.
قد تكون ضربته “الجايحة” المادية، لكن توازنه المعنوي بقي سالما. مما يضعه في ميزان الإنسان، معتد بنفسه، غير مبال بالوضع المادي المتدهور الطارئ. تلك “تمغربيت” التي تثأر لنفسها يوم الحساب.
في بداية الاقتراب منه، كنت أحبذ الوقوف على مسافة غير بعيدة منه، بسبب انفتاح المكان على أفق جبلي يناسب أفق النظر رفقة سيجارتي الصباحية الأولى. ولأننا لم نكن قد “فرقنا اللغى” بعد، كنت أشعر كما لو كان له اتجاهي موقف احترازي نتيجة شكه في كوني قد أجسد “بركاكا” غريبا، دوري استطلاع تفاصيل الحي. من الطبيعي أن يحترز شخص يبيع الديطاي (السجائر بالتقسيط) وبضعة حلويات على صندوق خشبي يعرضه مائلا على الجدار الخلفي.
إقرأ لنفس الكاتب: باب الجياف… باب اليهود!
في الصباح وفي المساء، عند مَوْعِدي ذهاب الناس إلى العمل والعودة منه… تقارب السن بيننا هو الذي جعلني أطمع في صداقة مغربي شعبي ذي أصول تظهر مدينية متأصلة. لذلك، خمنت أن كنزا من العبرة والحكمة ستنفتح أمامي حالما أربح ثقته وصداقته. استمر احترازه إلى أن صادف خروجي من منزل قريب فتغيرت نظرته إليّ.
لو قُدِّر لأنتربولوجي أن يستقرئ صفة المغربي من شخصية مولاي أحمد، لوجد فيه ذاك النموذج المحنط منذ قرون. المحنط منذ قرون لا تعني أبدا الحالات المتنافرة مع النموذج. لا المحافظ ولا التقليدي الخنوع. بل تعني الإنسان الذي تعلم اتباع الهدوء الحَذِر.
تبادلنا المعلومات الشخصية العامة. مجرد الاسم والانتماء المحلي من حيث الأحياء والحومات والدروب والأزقة. اسمي العائلي الرسمي يغريني على الاختباء وراء الانتماء “الجبلي” رفقة قردة النسناس حيث الاخماس الفوقية وبني ياحمد. مما يضمر عند العارفين بالجغرافيا المحلية للتراث الشمالي المتنوع، التحول من مناطق حفظ القرآن وعلوم اللغة والاقتراب من صوفية العَلَم عبد السلام بن مشيش، إلى منطقة غابوية موغلة في الارتفاع والالتواءات والأحراش، حيث اشتغلت سلطات الاستقلال (1961- 1999) على تحويلها إلى منطقة للاقتصاد المحظور: الحشيش. بهدف الاستراحة النهائية من صداع الراس لأجيال معتزة بنفسها، لجذور تاريخية كلها تستقي من الاسم القديم للمغرب (الامبراطورية الشريفة) قسطها من زمام المتروك، “علما” و”شرفا’ و”نسبا”.
من يتذكر أن بنتا من شجرة الادارسة، مغربية قحة، حملت يوما اسم “ريسون”؟ على وزن ميسون اليوم… من قرأ يوما 700 صفحة لميشو بيلير، حول الزوايا، ليعلم أن سلطان المغرب، كان في تنقلاته يحظى بمرافقة الشريف الريسوني على يمينه والشريف الوزاني على يساره؟ تلك مسافة ما بين القصر الكبير ودار الضمانة: وزان.
ولأنه من هذا الصنف من أولاد البلد، يشعر المتتبع لسلوكه أنه مندمج في محيطه الاجتماعي المتحرك (المارة غالبا) وله موقعه المهني (بيع السجائر بالتقسيط) مع الاعتبار الكافي، لا يظهر من ملامحه أنه يحس بدونية ما وليس له سلوك التملق.
مولاي أحمد لا أثر فيه للهجات القبائل الجبلية المحيطة بتطوان. لكنته مدينية دونما إيغال في تتيطوانيت. لكن إخراجا للحروف يجعل راءه حرفا من حروف أولاد ادريبة. لا هو حرف راء صافي الرنة ولا هو حرف غين غاوي اللحن.
في طريقة تعبيره، ملامح شخص معتد بنفسه، لا يحيد وجهه عنك ولا يغفل باله عن المحيط القريب الحركة. يعبر بملامح وجهه وبحركات يده اليمنى في تناسق فيه كثير من “تمعلميت”، مع يقين مكين كامن.
إقرأ أيضا: الأزهري الشجاع … والثلاثية العلمانية
غالبا ما يتميز أقدم الناس في حيّ ما أو مدينة ما بموروث راسخ من حيث الثقة بالنفس ومن حيث نمط التصرف والمعاملة. خصوصا أولئك المحتاطون الذين يقرؤون عن بعد، شخوص المكان الدائمين، لرصد الغرباء لحظة ما. ولأنه من هذا الصنف من أولاد البلد، يشعر المتتبع لسلوكه أنه مندمج في محيطه الاجتماعي المتحرك (المارة غالبا) وله موقعه المهني (بيع السجائر بالتقسيط) مع الاعتبار الكافي. لا يظهر من ملامحه أنه يحس بدونية ما وليس له سلوك التملق. يقتلع مركزه في الندية العامة باتباع ما يشبه التجاهل التلقائي لمن حوله عمدا واعتيادا.
من يتذكر أن بنتا من شجرة الادارسة مغربية قحة حملت يوما اسم “ريسون”؟ على وزن ميسون اليوم. من قرأ يوما 700 صفحة لميشو بيلير، حول الزوايا، ليعلم أن سلطان المغرب، كان في تنقلاته يحظى بمرافقة الشريف الريسوني على يمينه والشريف الوزاني على يساره؟ تلك مسافة ما بين القصر الكبير ودار الضمانة: وزان.
لو قُدِّر لأنتربولوجي أن يستقرئ صفة المغربي من شخصية مولاي أحمد، لوجد فيه ذاك النموذج المحنط منذ قرون. المحنط منذ قرون لا تعني أبدا الحالات المتنافرة مع النموذج. لا المحافظ ولا التقليدي الخنوع. بل تعني الإنسان الذي تعلم اتباع الهدوء الحَذِر. الهدوء يستند إلى الرسوخ في الانتماء. والحَذَر يعني أن البلد والسكان عرفوا موجات من العابرين، سواء منهم أبسط أبناء السبيل بالتقسيط، أو الدخلاء الغازون في جموع غازية تقتلع الزرع وتسرق الضرع، كما يذكر ابن عذارى عن الفتح العربي باسم الإسلام. فالهدوء الحَذِر يلخص الانتماء الراسخ للمحلي مع القدرة على التكيف مع الغريب.
إقرأ أيضا: خُنَاثة بنت بكار.. من هدية للسلطان إلى أم للسلاطين!
أما أن يظهر هذا الاطمئنان في جلد بلدية ابن البلد من موقع الفقر الذي يختار صاحبه “مهنة” مهمشة، فتلك قيمة الكرامة التي تخفي الاعتزاز رفقة القناعة. لو نعود لمعياري “المقام الطبيعي” و“المقام الفلسفي” فسنجد غلبة القوة المعنوية على “الضعف” المادي. ما يلخص في اللغة العربية بمعادلة “العفاف والكفاف”. ذاك هو مولاي أحمد.
قد تكون ضربته “الجايحة” المادية، لكن توازنه المعنوي بقي سالما. مما يضعه في ميزان الإنسان، معتد بنفسه، غير مبال بالوضع المادي المتدهور الطارئ. تلك “تمغربيت” التي تثأر لنفسها يوم الحساب. وذاك هو مولاي أحمد.