حسين الوادعي يكتب عن خالد محمد خالد: الأزهري الشجاع… وعلمانية الدولة والتشريع والأخلاق
هذا مُلَخص مُخْلص للثلاثية العلمانية لأحد رواد العقل والعلمانية والديمقراطية في العالم العربي، أدعو الجميع إلى الاهتمام بتراثه المجهول ودراسته والبناء على ما أقامه من صروح شامخة بشجاعة منقطعة النظير.
ليست العلمانية فصل الدين عن الدولة فقط، مع أن هذا الأمر هو أهم أعمدتها.
فالعلمانية فكرة شاملة لا تحرر الدين فقط من سيطرة السلطان، ولا تحرر الدولة فقط من غموض الكهانة، لكنها آلية بشرية عبقرية لتحرير المجتمع من تسلط الأقوياء، وتحرير الفرد من سيطرة الجماعة، وتحرير العقل من سيطرة الخرافة، وتحرير النفس من قيود الكبت والتقاليد والخوف.
لست أدعي ولا أبالغ عندما أقول إن فرسان العلمانية العربية الأشجع، كانوا ثلاثة من خريجي الأزهر ومشايخه.
فأما أولهم، فهو علي عبد الرازق، الذي أنكر أي سلطة سياسية للدين، وأسس دينيا وتاريخيا لفصل الدين عن السياسة في كتابه “الإسلام وأصول الحكم”.
فرسان العلمانية العربية الأشجع، كانوا ثلاثة من خريجي الأزهر ومشايخه.
ثانيهم هو طه حسين، الذي أرسى قاعدة علمانية العلم، وفصل الاعتقاد الديني الإيديولوجي عن البحث العلمي، ليكون البحث كله خالصا للعقل وللمنهج العلمي مهما كانت النتائج مخالفة للموروث، وذلك في كتابه “في الشعر الجاهلي“.
وأما الثالث، فهو خالد محمد خالد، الذي جمع مجد الفكرة العلمانية من أطرافه، فدعا لمدنية الحكم وفصل الدين عن الدولة في كتابه “من هنا نبدأ”.
ولأن تحرير الدين من السلطان لا يكفي وحده لتحرير المجتمع، فقد دعا لعلمانية التشريع وإقامة القوانين على العقل والمصلحة لا على النص والمرجعية الدينية في كتابه “الديمقراطية أبدا”.
ولأن تحرير القوانين من تسلط السلطان وكهانة رجل الدين لا تكفي وحدها لتحرير الفرد والنفس من أعباء التقاليد وأدران الخرافة، فقد دعا للأخلاق المدنية بدلا عن الأخلاق الدينية، وإلى إعادة بناء أخلاقنا من جديد بناء على علم النفس وعلوم الطب والإنسان، ونقل مرجعية الأخلاق من المحراب إلى غرفة التشريح.
هذه هي “الثلاثية العلمانية” التي أتقن عزفها، بقلم رشيق وعقل متوقد وشجاعة لا تعرف حدودا، الأزهري خالد محمد خالد، خلال أربع سنوات فقط.
اقرأ أيضا: حسين الوادعي يعلنها توبة نصوحة
عام 1950، طالب ووضع الأسس المفصلة لعلمنة الدولة والسياسة في “من هنا نبدأ”.
عام 1953، يعود بثورة أخرى مطالبا بعلمنة التشريع والقوانين في كتابه “الديمقراطية أبدا”،
وعام 1954، توغل خالد في عالم النفس والأخلاق ليطالب بعلمنة الاخلاق.
من حسن حظي أنني تعرفت على خالد محمد خالد عبر المناهج الدراسية اليمنية لوزارة التعليم التي قررت تدريس كتابه “رجال حول الرسول”، على ثلاثة أجزاء من الصف الأول الى الصف الثالث الثانوي.
قادتني كتاباته الشعرية التفخيمية عن الصحابة والخلفاء التي كتبها في أواخر حياته إلى النبش والبحث عن كل ما كتب، حتى وقعت على أول وأهم مؤلفاته التي كتبها بين 1950 إلى 1955.
يتيح التصور العلمي لنا فرصة الكشف عن المصادر الحقيقية لأخلاق الناس وسلوكهم، التي تتمثل في تكوينهم الجسدي والنفسي والبيئي. على عكس التصور الديني الذي يرى الأخلاق نتيجة لإراداة الله أو لنغزات الشيطان.
في رحلة شهر العسل إلى القاهرة، ذهبت مع عروستي الصابرة المحتسبة إلى سور الأزبكية، لأعثر على نسخة قديمة جدا لكتاب “هذا أو الطوفان”.
نسيت عسل الزواج وانغمست في قراءة الكتاب وتلخيصه، وكانت تلك أول صدمات الزواج التي واجهتها شريكة حياتي.
الكتاب قنبلة فكرية انشطارية، يبدأ من أفكار بسيطة لكنها جريئة، تثير كل فكرة خلخلةً في أفكارنا السائدة عن النفس والإنسان، لتقوم كل فكرة إلى أفكار أخرى تتفجر عبر صفحات الكتاب دون أن تتيح للقارئ التقاط أنفاسه.
اقرأ أيضا – حسين الوادعي: التأليف الإسلامي حول العلمانية
العنوان الفرعي للغلاف هو: “بحث هادف موضوعه أخلاقنا من جديد”.
تحت العنوان الفرعي على الغلاف أيضا، عبارة هي مفتاح الروح التي يشيعها الكتاب “بدون شجاعة لا توجد حقيقة… وبدون حقيقة لا توجد فضيلة”.
لا يمهل الكتاب القارئَ ليفتح صفحته الأولى ليتعرف على هدف الكتاب، فالغلاف يقول وبوضوح إن “الحقيقة”، أي العلم والتجربة والبرهان، هي أساس الفصائل.
الأخلاق صناعة بشرية وليست نصا من السماء. أما ما كان يدعوه القادمون “الأخلاق الدينية”، فليست أخلاق الدين، بقدر ما هي أخلاق الكهنة.
في أول صفحتين للكتاب، يضع المؤلف أول أفكاره الإنشطارية: “تطورية الأخلاق”. فالفرق بين الإنسان والحيوان هو التكيف (التطور)؛ ففي صراع الإنسان مع بقية الحيوان للسيطرة على الكوكب، فاز الإنسان لأنه يتكيف ويسعى دائما لترقية نفسه.
يفتتح الأزهري نظرته للأخلاق بداروين وعبارته “إن الضمير، أو الحس الأخلاقي، هو أظهر فاصل بين الإنسان والحيوان”. فللحيونات أخلاقها أيضا، لكن الفرق بينها وبين الإنسان أن أخلاقها ثابتة بينما أخلاق الإنسان متغيرة. لا يتوقف الإنسان عن التسامي بأخلاقه وتقاليده وعاداته.
الأخلاق إذن صناعة بشرية وليست نصا من السماء. أما ما كان يدعوه القادمون “الأخلاق الدينية”، فليست أخلاق الدين، بقدر ما هي أخلاق الكهنة.
ولأن الدين ثابت والأخلاق متغيرة، فليس نافعا أن نقيم الأخلاق على الدين. فلو أقمناها على النص الديني، لتقدست وتخلدت وحرم الإنسان من إرادة التكيف والتسامي. تلك الإرادة التي حولته من كائن بدائي أقرب للحيوان، إلى إنسان عاقل.
واذا أردنا أن نعرف ما هي الفضيلة وما جوهر الأخلاق المبتغاة، وجب أن نبحث عنها داخل الإنسان ذاته.
اقرأ أيضا – حسين الوادعي: الموت خطأ تقني
يقول خالد في كتابه إن هناك تصورين رئيسيين للأخلاق: التصور الديني والتصور العلمي؛ وهو يؤثِر التصور العلمي بلا مواراة، للأسباب التالية:
أولا: يتيح التصور العلمي لنا فرصة الكشف عن المصادر الحقيقية لأخلاق الناس وسلوكهم، التي تتمثل في تكوينهم الجسدي والنفسي والبيئي. على عكس التصور الديني الذي يرى الأخلاق نتيجة لإراداة الله أو لنغزات الشيطان.
ثانيا: يؤكد العلم على المسؤولية الأخلاقية للإنسان، لأن السلوك الأخلاقي نتاج للإنسان وأعصابه وغدده وغذائه وتربيته وبيئته، بينما يقدم لنا التصور الديني رؤية غامضة لمصدر الأخلاق خارج الانسان لا داخله.
ثالثا: يؤكد العلم على قدرة الإنسان على تطوير أخلاقه والسمو بها. فقد تخلى الإنسان عن النهب والسرقة والسبي والاغتصاب وحصر القتل في حالات الدفاع عن النفس أو الوطن، وأعطى للمرأة بعض حقوقها بعد أن كانت تابعة مسلوبة. أما التصور الديني، فلا يتيح فرصة لتطور الأخلاق لأنه يراها منزلة ونهائية وكاملة.
رابعا: يكشف العلم عن المعايير الصحيحة للفضيلة. فقد نصف شخصا ما على أنه زاهد، وهو في حقيقته بليد؛ وقد نصف شخصا أنه قنوع، بينما هو في حقيقته عاجز؛ وقد نصفه بأنه ضال، وهو في الحقيقة على الطريق الصحيح. إن المعايير الدينية للفضيلة تزيف وتحرف معاني الأخلاق كما أنها قد تزيف الحلول ايضا.
اقرأ أيضا: هل ستنهار الأخلاق من دون الإيمان والدين؟
فـالصلاة والصوم والحج لا علاقة لها بالأخلاق، لأنك يمكن أن تكون متدينا وأنت مشحون من داخلك بالعقد النفسية. فالصلاة لن تعالج آفات الخجل والخوف والانكفاء على الذات والتطلع الجنسي.
إن المعايير الدينية للفضيلة تزيف وتحرف معاني الأخلاق كما أنها قد تزيف الحلول ايضا.
كما أن التدين ليس السبيل الأوحد للأخلاق. فقد يلتزم الرجل بالشعائر الدينية ويظل مع ذلك مجردا من الفضائل.
والتدين ليس علاجا للكبت أو الاكتئاب أو الخوف، فإذا أردنا علاج مثل هذه الاضطرابات بالتدين، فإننا نأزف بتحويل الدين إلى انفعال مرضي. والتدين المرضي، كما نشاهده يوميا، يتجلى في سلوكيات خطرة مثل التعصب الأعمي، وكراهية النساء وتحقيرها، والخوف المرضي من الرذيلة، والمبالغة في التحريم، ومحاولة إجبار الناس على الصوم والصلاة والإمتناع عن الفنون والموسيقى، وربما يصل إلى العنف والإرهاب.
إن استخدام الدين لكبت الغرائز بدلا من استخدام العلم لترقيتها وتصريفها، أشبه بصناعة ألغام متحركة.
اقرأ لنفس الكاتب: هل يكون التدين المفرط مرضاً نفسيا؟
كما أن الدين يهتم بالقضية وله دور مهم في الحث على الفضائل. لكن مشكلة الدين أنه يدعونا للتخلق بأخلاق الله، وهذا مستحيل، إلا لو تحولنا إلى آلهة.
إن استخدام الدين لكبت الغرائز بدلا من استخدام العلم لترقيتها وتصريفها، أشبه بصناعة ألغام متحركة.
أما العلم، فيدعونا للتخلق بأخلاق الإنسان. وأخلاق الإنسان هي أخلاق متطورة، مبنية على التطور العلمي والاجتماعي والاقتصادي، تحترم غرائز الإنسان ولا تكبتها، وتقدم فهما حقيقيا للفضائل.
إن شعار التصور العلمي للأخلاق هو “السعادة لا التقوى”. فالسعادة هي التناغم بين العقل والغريزة والتعبير السليم عن غرائزنا، دون أن نؤذي نفسنا أو نؤذي الآخرين. أما التقوى، فهي قهر النفس وإذلالها وصولا إلى هدم طبيعتنا.
ديمقراطية التشريع
في كتاب “الديمقراطية أبدا”، قدم خالد مرافعة مضادة في وقت مبكر جدا لشعارات تطبيق الشريعة. وقد تنبأ أن الافراد القلائل الذين كانوا يطالبون بتطبيق الشريعة في الأربعينات والخمسينات، قد يتحولون الى تيار كاسح يهز مصائر البلاد والعباد؛ ولقد تحققت نبوءته بشكل مأساوي.
مشكلة الدين أنه يدعونا للتخلق بأخلاق الله، وهذا مستحيل، إلا لو تحولنا إلى آلهة.
لقد حاول أن يفند دعوى تطبيق الشريعة قبل أن تستفحل. وكما ركز على تطورية الأخلاق، فقد انطلق أيضا من تطورية القوانين. فالقوانين عملية متطورة بذلت فيها البشرية جهودا ضخمة حتى انتقلت من القوانين البدائية القاسية إلى قوانين أكثر إنسانية وواقعية ومراعاة للتطور. وهكذا انتقلت القوانين من الكهنة إلى الفلاسفة والسياسيين والمفكرين، ليبني التشريع على احتياجات الإنسان وتطوره بدلا من بنائه على التوجيهات الغامضة للنصوص المقدسة.
اقرأ أيضا – حسين الوادعي: لننس الدين الصحيح ولنتحدث عن حرية المعتقد
لقد جاءت التشريعات الإسلامية مرتبطة ببيئتها القديمة التي تغيرت وانتهت، فقد أقر الإسلام العبودية كما أقرتها تشريعات حمورابي وسومر والرومان، لكن البيئة تغيرت وصار تشريع العبودية جريمة. وقد أعطت قوانين حمورابي وقوانين القدماء للمرأة نصف ميراث الرجل، وكذلك فعل الإسلام الذي نشأ في بيئة قريبة من بيئة حمورابي والسومريين، لكن وضع المرأة اليوم يختلف اختلافا يجعل عدم المساواة في الميراث تشريعا قديما.
إن التشريعات، كل التشريعات، بما في تلك التشريعات الإسلامية، هي تشريعات بشرية. فالقوانين تتغير بتغير الأحوال، ولا يمكن للدين أن يثبت تشريعات معينة وإلا أعاق تطور الانسان. فأهم خصائص التشريعات الناجحة أن تكون متطورة ونامية كما تطورت التشريعات ونمت من العصر البدائي حتى اليوم، وتخلت عن العقوبات الجسدية والعنف والقتل والعنصرية والتمييز بين الرجل والمرأة أو بين البيض والسود أو بين أتباع الأديان المختلفة، لتتحول إلى تشريعات إنسانية تقوم على المساواة والحرية واحترام الإنسان.
لقد أعطت قوانين حمورابي وقوانين القدماء للمرأة نصف ميراث الرجل، وكذلك فعل الإسلام الذي نشأ في بيئة قريبة من بيئة حمورابي والسومريين، لكن وضع المرأة اليوم يختلف اختلافا يجعل المناصفة في الميراث تشريعا قديما.
طالب خالد بأن يقوم التشريع على العقل، وفرق بوضوح بين الدين والشريعة. فالدين هو الأصول الثابتة، أما الشريعة فهي الأحكام العملية المتغيرة. والفقه الإسلامي هو “قانون وضعي” أيضا، وضعه الفقهاء المجتهدون بالعقل بناء على المصلحة واستجابةً لبيئتهم القديمة.
لابد إذن من حيادية القوانين وعدم اصطباغها بصبغات أو حصانة دينية. وقد اهتدى الوعي الإنساني كله إلى هذه الحقيقية: حقيقة أنه لا يمكن تنظيم شؤون الناس اليوم إلا عبر الدساتير الوضعية والقوانين الوضعية. إن تطور الحياة البشرية لم يعد يسمح قط أن تصطبغ القوانين العامة للدولة المتحضرة بصبغة دينية إسلامية كانت أو مسيحية أو بوذية أو يهودية.
هذه هي خلاصة آراء خالد محمد خالد حول علمنة التشريع.
أما رأيه حول فصل الدين عن الدولة، فقد ضمنه فصل “قومية الحكم” في كتاب “من هنا نبدأ”، الذي حذر فيه أيما تحذير من الحكومة الدينية وغرائز الحكومة الدينية (الغموض المقدس والقسوة المتوحشة) ونادى بفصل الدين عن السياسة وفصل الدين عن الدولة وإقامة حكم ديمقراطي مدني قومي.
هذا مُلَخص مُخْلص للثلاثية العلمانية لأحد رواد العقل والعلمانية والديمقراطية في العالم العربي، أدعو الجميع إلى الاهتمام بتراثه المجهول ودراسته والبناء على ما أقامه من صروح شامخة بشجاعة منقطعة النظير.
يقول العالم الفرنسي جاك لاكون أن المجتمع لن يكون مجتمعا انساني في ضل تصرف الغرائز عشوائيا فالدين انتم من استعملتموه في الطريق الخطأ كيف للدين أن يقوم على كبت الغرائز وهو يحل الزواج ومن ناحية ان علم النفس يقول في مسألة التمتع بالحريات الفردية الزنى اقصد تتطلب طاقة نفسية لا يمتلكها احد و تلقي بعبئ نفسي كبير على الفرد و يقولى هادي الامة صلى الله عليه و سلم لأنيطعن في راس أحدكم بمخيط من حديد خير له من ان يمس مراة لا تحل له فتصور مجتمعا متل الحيوانات فمن فاقت شهواته عقله فهو احط من البهائم والحمد لله على نعمة الاسلام التى اكرمنى بها الله عز وجل
المادة الفكرية استاذي العزيز موجودة .(الجابري اركون حنفي نصار حرب تيزيني العروي الخ الخ لكن المشكلة العويصة تكمن في كيفية تغيير وتجاوز الثقافة الدينية المتكلسة وهي مدعومة من الأنظمة السياسية داخليا ومن الانظمة الامبريالية الانجلبزية خاصة ؟؟ فالتجديد يخنق من هذين الفكين فكي تمساح.