تونس تتزعم السبق في الحريات الفردية
عندما تابعت خروج المئات من التونسيين والتونسيات للإحتجاج على كل قانون أو تعديل له يروم التقدم بمستوى المساواة في الحقوق بين الجنسيين، وتعزيز فلسفة الحريات الفردية وتأطير الدفاع عنها بقانون …
عندما تابعت خروج المئات من التونسيين والتونسيات للإحتجاج على كل قانون أو تعديل له يروم التقدم بمستوى المساواة في الحقوق بين الجنسيين، وتعزيز فلسفة الحريات الفردية وتأطير الدفاع عنها بقانون جديد، تذكرت خروج الآلاف من المغاربة أواخر العشرية الأخيرة من القرن الذي ودعناه. خرج المغاربة حينها في مسيرتين، إحداهما بمدينة البيضاء تعترض على أهم ما جاء في خطة حكومية جاء بها السيد سعيد السعدي في حكومة التناوب والتي كانت تروم إدماج المرأة في التنمية؛ وأخرى بالرباط تدافع عن الخطة وترى فيها تململا إيجابيا باتجاه إنصاف المرأة ضمن منظومة الترابط الأسري، خاصة ما اتصل بمسألة الزواج والطلاق والولاية وغيرها.
طبعا، كان الرهان عند أعداء حرية المرأة هو إفشال تقدم الخطة حتى لا تترجم إلى إجراءات قانونية، والعودة بقضية المرأة إلى المربع الأول.
مشكلة الحقوق في المنطقة العربيه، أنها مبتسرة ومجتزأة، ويتم التلاعب بها سياسيا من طرف تيارات دينية تزعم الدفاع عن نظرية الحق الإلهي إياها، وكأن الله قد كلف فئة تكفر بسنن التغيير وقيم التسامح وفلسفة حقوق الإنسان، للدفاع عنه !!
وطبعا كانت تعليقات وتصريحات الصحافة تحكي عن تفوق عددي لمسيرة البيضاء المعارضة، وهو تمرين تتحسس من خلاله الجهات الرسمية مستوى نضج المجتمع ومدى تجاوبه مع بعض التغييرات التي تطال علاقات أفراد المجتمع خاصة العلاقة التراتبية بين الجنسين الموروثة عن عهود سحيقة.
إقرأ أيضا: المساواة في الإرث: الثورة التونسية؟
ككل الاحتجاجات التي تؤلب بها التيارات المحافظة والمتطرفة والذكورية عامة الناس للخروج، تكون الغلبة العددية للمسيرات التي تهاجم التغيير، لأنها تخشى نتائجه التي قد تهدم وضعا قائما (Statu quo)، وتحلحل الثوابت المكرسة لتأبيد التخلف والجهل المركب والمقدس والتفاوت الطبقي والتراتبية الذكورية داخل الأسرة النووية وداخل المجتمع الكبير.
بالعودة إلى المسيرة الاحتجاجية التي خرج فيها جزء من المجتمع التونسي للإعتراض على كل محاولة لتغيير القوانين باتجاه المساواة بين المرأة والرجل في كل شيء، وإطلاق الحريات الفردية، بما فيها تحرير المثلية الجنسية والاعتراف بها، نجد نفس العقلية المسيطرة تدلي بعنقها عند كل اختبار لمستوى نضج المجتمع العربي، والتونسي ليس منه ببعيد؛ إذ يعد المجتمع التونسي ذا سبق في تخصيب الحياة العامة بما يمكن الشعب من تقبل الجديد والتعايش مع الإختلاف، وتعزيز ترسانة الحقوق بالإنفتاح على إمكانات مقموعة (المثلية الجنسية كمثال) وتكريس شمولية مفهوم المساواة ليطال مناطق مسيجة بنصوص مقدسة مثل المساواة في الإرث.
القاعدة العريضة التي تتمسك بالبناء الذكوري القائم منذ قرون يستعصي عليها فهم فلسفة الحقوق على ضوء المستجدات والمتغيرات الطارئة والناهضة من الصمت الأغلبي ومن القمع النخبوي (الفقهي والسياسي) لتلبية حاجة نابعة من أقلية أو فئة مسكوت عنها
القاعدة العريضة التي تتمسك بالبناء الذكوري القائم منذ قرون يستعصي عليها فهم فلسفة الحقوق على ضوء المستجدات والمتغيرات الطارئة والناهضة من الصمت الأغلبي ومن القمع النخبوي (الفقهي والسياسي) لتلبية حاجة نابعة من أقلية أو فئة مسكوت عنها أو جنس يحتل الرتبة الثانية في سلم العناية بالإنسان.
إقرأ أيضا: بعض من كلام: المساواة في تونس… إنهم يغتالون الإسلام!
الاعتراض الصارم هذا، سيجد أرضية جماهيرية تتعاطف مع خطابه الإسلاموي الذي يهيمن على الساحة ويوجه الفكر والمنطق تجاه تعطيل صوت الحق الإنساني والتشويش عليه، باستحضار نظرية الحق الإلهي الجاهزة دوما، للإجهاز على كل محاولة للاجتهاد في النص تحت قاعدة دوغمائية فقهية “لا اجتهاد مع وجود النص”.
مشكلة الحقوق في المنطقة العربيه، أنها مبتسرة ومجتزأة، ويتم التلاعب بها سياسيا من طرف تيارات دينية تزعم الدفاع عن نظرية الحق الإلهي إياها، وكأن الله قد كلف فئة تكفر بسنن التغيير وقيم التسامح وفلسفة حقوق الإنسان، للدفاع عنه !!
عن أي إله يتحدث هؤلاء؟ وهل لله وكلاء ومحامون من جنس المتعصبين والمتطرفين والسلفيين والإخوان المتشددين كما يدعي هؤلاء وأولئك؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون انعكاسا سوسيو-ثقافيا لمرحلة ضعف العقل العربي/الإسلامي عن مسايرة ركب التقدم الذي من عناوينه الكبرى، حقوق الإنسان الكونية، التي لا يمكن لإله يعبد، أن يعترض عليها ما دامت تخدم المصلحة البشرية في كل زمان ومكان؟
التململ الساخن في البيئة التونسية ظاهرة صحية، وتمرين صعب لا شك أن المجتمع التونسي الذي تجاوز عنق الزجاجة بعد الإطاحة بحكم الدكتاتور من خلال ثورة الياسمين، سيجد المرونة الفكرية اللازمة لتصحيح الوضع، والنهوض بالحقوق والاعتراف بفئة مهمشة، لكنها تعتاش على كفاحها المستميت، من أجل القبول بالحق في الاختلاف في الدين والميول الجنسي دون التفريط في المساواة كحق أصيل للنساء المتحررات من جبروت الفكر الذكوري القائم أسريا واجتماعيا وسياسيا في بلادنا العربية حديثة العهد بالحداثة الثقافية والفكرية.