الحنيفية: عن دين إبراهيم في “الجاهلية”! 3/1من أين للعرب في "الجاهلية" المتأخرة بدين إبراهيم؟
العبادة الإيلية بفرعها الإبراهيمي، بكل تأكيد، لم تكن في “الجاهلية” المتأخرة بذات شكلها القديم… الحنيفية إبراهيمية، لكن في معناها الفضفاض، ذلك أنها تفاعلت مع محيط شديد التنوع الديني.
كان العرب في شبه الجزيرة على دين إبراهيم، يورد المؤرخ العراقي جواد علي[1]… إلى أن أتى رجل يدعى عمرو بن لحي، فنشر بينهم الأصنام والأوثان ودعا إلى عبادتها.
بينما نجحت دعوته هذه إجمالا، ظل البعض على دين إبراهيم، الذي يعرف بـ”الحنيفية”، وسموا بالحنفاء أو الأحناف.
هؤلاء، حسبما جاء في القرآن[2]، عرب لم تعبد الأصنام، ولم تكن من اليهود ولا النصارى، وإنما اعتقدت بوجود إله واحد عبدته.
اقرأ أيضا: الشعر ديوان العرب في الزندقة أيضا… قبل أن يطاله مقص رواة الأخبار! 2/1
لكن، بالرغم مما ذكره أهل الأخبار عن هؤلاء، يرى جواد علي أن ذلك يظل غامضا، لا يشرح عقائدهم، ولا يوضح رأيهم في الدين.
… كما ليس في ذلك شيء عن عقيدتهم في الله، وكيفية تصورهم وعبادتهم له، ولا شيئا عن كتاب كانوا يتبعونه أو كتب كانوا يسيرون عليها.
دين إبراهيم؟
تشير المدونات التاريخية القديمة إلى وقوع نزاعات دينية أساسية في العراق، في حوالي الفترة التي هاجر فيها إبراهيم، يقول المؤرخ العراقي أحمد سوسة[3].
هذه الهجرة نتجت عن صراع داخلي عنيف، بين عبادة “إيل” التوحيدية، وعبادة إله القمر الجنوبي “سين”، انتهى بانتصار أتباع الأخير، وخروج هجرة كبيرة من العراق، بقيادة آخر ملوك السلالة التي كانت على العبادة الإيلية.
“المشركون” كما يتضح ذلك من وصفهم، كانوا يتعبدون الله، لكن… بالتقرب من مخلوقاته (الأرباب)؛ أما الحنفاء، فقد رأوا أن العبادة لله وحده دون شفيع أو وسيط.
ذلك الملك كان يدعى “ياثع إيل”، ويعني اسمه “إلهُه الواحد صديقٌ له”؛ ذات الصفة التي عُرف بها إبراهيم: “خليل الله”.
سوسة، يرى أن إبراهيم هو ياثع إيل نفسه، الذي خرج بقومه في هجرة طويلة، انطلقت إلى مدينة ماري، ثم حرّان، وتدمر فدمشق، لتستقر في أرض كنعان.
الحنيفية، إذن، ليست وفق الباحث المصري عماد الصباغ[4]، سوى الفرع الآرامي للعبادة الإيلية التوحيدية، التي كانت منتشرة في المنطقة العربية القديمة على نطاق واسع.
اقرأ أيضا: بين الأسطورة والعلم: كيف كانت بداية البشرية في الواقع؟ 4/3
عبادة “إيل”، تحولت فيما بعد إلى عبادة “الله”، بعد تحول طرأ على لفظ “الجلالة”… إيل، بالمناسبة، كان الإله الأعلى، حسب الميثولوجيا الكنعانية، وخالق البشر وكل المخلوقات.
لا بأس من فتح قوس صغير هنا، لنوضح هذا التحول بطريقة أخرى: إيل هذا، هو الذي نجده في الأسماء من قبيل رافائيل[5] أو إسرائيل[6] أو عزرائيل[7]… وهي في معناها، كما هو موضح في الهامش، تماما كاسم عبد الله أو سعد الله وغيرها.
لكن، وفق الصباغ، العبادة الإيلية بفرعها الإبراهيمي، بكل تأكيد، لم تكن في “الجاهلية” المتأخرة بذات شكلها القديم، إنما نستطيع تلمس حضورها القديم هذا في شكلها المتأخر من خلال نقطتين:
أثارت مفردة “حنيف” اهتمام العلماء، لكنهم لم يعثروا لها على تفسير وتعليل يتخطى الاقتراحات، في سياق إيجاد رواية “منطقية” لفكرة انتقال الدين الإبراهيمي إلى العرب.
النقطة الأولى تتعلق بالاتفاق بين عرب “الجاهلية” على اعتبار إبراهيم نبيا عظيما؛ والثانية، أن الله هو خالق جميع الحيوات[8] والأشياء.
بعبارة أخرى، “المشركون” كما يتضح ذلك من وصفهم، يتعبدون الله، لكن… بالتقرب من مخلوقاته (الأرباب)؛ أما الحنفاء، فقد رأوا أن العبادة لله وحده دون شفيع أو وسيط.
الذي يود الصباغ قوله هنا، أن الحنيفية إبراهيمية في معناها الفضفاض، ذلك أنها كانت متفاعلة مع محيط شديد التنوع الديني، وبناء عليه، صاغوا آراءهم.
من أين للعرب بـ”الحنيفية”؟
يقول الباحث اللبناني حسام عيتاني[9]، إن مفردة “حنيف” أثارت اهتمام العلماء، من دون أن يعثروا لها على تفسير وتعليل يتخطى الاقتراحات، في سياق إيجاد رواية “منطقية” لفكرة انتقال الدين الإبراهيمي إلى العرب.
من تلك الاقتراحات ما طرحه المؤرخ اليهودي، إسرائيل ولفنسون[10]، في سياق عرضه لتأثير اليهود على العرب، حيث يُرجع مفردة “حنيف” إلى مفردة “ملة” العبرية، وتعني بحسبه “العضو الذكري”.
“الحنيف” في الأصل، هو المائل إلى الشر، كما هو عند اليهود في لغتهم… ذات المعنى نجده في اللغة العربية؛ جاء في لسان العرب، أن حَنَفَ بمعنى مال… سواء من الشر إلى الخير أو بالعكس.
الناموس الديني اليهودي يقول إن كل من اختتن قد دخل في ذمة وعهد إبراهيم… من هنا، أطلق على كل من اختتن، تعبير “ملة إبراهيم”.
وطالما أن الختان ليس الشرط الوحيد ليصبح المرء يهوديا، فكل من اختتن، دون أن يعتنق باقي أصول الدين اليهودي، يقول ولفنسون، يطلق عليه “حنيف غير صالح”؛ أي الختان غير الوافي بالشروط اليهودية.
بالمناسبة، الحنيف عند “الجاهليين”، بحسب ما يذكره جواد علي عن أهل الأخبار، كل من اختتن وحج البيت، طالما أن العرب آنذاك لم تتمسك بشيء من دين إبراهيم سوى ذلك.
اقرأ أيضا: ملف مرايانا: نحن أحق بالشك من ابراهيم! 3/3
ما تقدم، يخلص ولفنسون، يصلح لتبرير الاعتقاد بأن “الحنيف” في الأصل، هو المائل إلى الشر، كما هو عند اليهود في لغتهم.
ذات المعنى نجده في اللغة العربية؛ جاء في لسان العرب، أن حَنَفَ بمعنى مال… سواء من الشر إلى الخير أو بالعكس.
وإذا كان العرب قد يطلقون اللفظ على الشيء وضده، فقد أطلقوه على المستقيم على ملة إبراهيم، استعمالا للفظ في أحد معنَيَيْه، يقول عيتاني.
نقطة التحول حدثت حين ظهر الإسلام، الذي تنبني عقيدته على التنكر للأصنام؛ فلفظ حنيف، صار بعد ذاك مدحا لمن أطلق عليه، لا ذما.
عيتاني يضيف أنه… يحتمل أن يكون اليهود قد أطلقوا وصف “حنيف” على العرب، التي شاعت عندها عادة الختان من دون أن يتضح لها معناه.
لكن عيتاني يقول إن نظرية ولفنسون، قد تنهار إذا صح افتراض المستشرق الألماني تيودور نودلكه بأن “ملّة”، التي ترد في القرآن، مستعارة من اللغة الآرمية، حيث تعني حرفيا “كلمة”، وبأنها ترد في النص الإسلامي بمعنى “دين”.
اقرأ أيضا: قداسة الكعبة على ضوء التاريخ الإسلامي: حين قدس العرب 8 كعبات! 1/3
بالمقابل، يذهب جواد علي إلى أن “حنيف” في الأصل بمعنى “صابئ”؛ أي خارج عن ملة القوم، تارك لعبادتهم. يدعم رأيه بورودها بمعنى الميل عن الشيء وتركه، الذي يرد في النصوص العربية، وبمعنى الملحد والكافر الذي يرد في لغة بني آرم، ومن ذهاب المسعودي إلى أن اللفظ من الألفاظ السريانية المعربة.
أيا يكن، نقطة التحول حدثت حين ظهر الإسلام، الذي تنبني عقيدته على التنكر للأصنام؛ فلفظ حنيف، صار بعد ذاك مدحا لمن أطلق عليه، لا ذما.
في الجزء الثاني… من هم الحنفاء؟ هل كانوا أفرادا أم فرقة؟ وما كانت كتبهم الدينية؟
لقراءة الجزء الثاني: دين إبراهيم في “الجاهلية”: من هم الحنفاء؟ هل كانوا أفرادا أم فرقة؟ وما كانت كتبهم الدينية؟ 3/2
لقراءة الجزء الثالث: دين إبراهيم في “الجاهلية”: هل الحنيفية مجرد تجميعة منقحة لعقائد الديانات التي كانت تجاورها؟ 3/3