الحرية الفكرية: هكذا أسهم رجال الدين تاريخيا في قمع الفكر واضطهاده 4/2
لو أننا ننظر إلى الدين الإسلامي في حد ذاته… نجرده حينها من أشياء كثيرة، بداية من الخلافة، وليس انتهاء بالتحرج من الصلاة بالحذاء ومن استنجاس الكلاب، لأننا لا نجد نصا بالخلافة في القرآن، ونعلم أن السلف الأول من المسلمين كانوا يدخلون الجامع ويصلون بأحذيتهم والكلاب تجتاز الجامع.
بعد الجزء الأول الذي تابعنا فيه كيف ترنحت الحرية الفكرية قديما بين سلطة الطابو وحتميتها في تطور الحياة، نواصل الملف في جزئه الثاني، لنرى كيف أسهم رجال الدين تاريخيا في الحجر على الفكر واضطهاده.
نستطيع أن نجازف ونقول إن الأمم القديمة قد مارست العلوم. لكنها لم تكن في ذلك تنحو نزعة علمية. كانت للدين سطوته في تفسيرهم للظواهر الكونية والطبيعية.
بعبارة أخرى، لم تصنع هذه الأمم نظريات علمية. كانت علومهم مجموعة من المعارف، لا خطة عامة لها ولا غاية نهائية، يقول المصلح المصري سلامة موسى في كتابه “حرية الفكر وأبطالها في التاريخ”.
اقرأ أيضا: من أين جئنا؟ وما هو مصيرنا؟ نظرية التطور، الانفجار الكبير، الخلق…؟
وحدهم الإغريق شذوا عن هؤلاء، وتميزوا بنزعة علمية. ساعدهم في ذلك أنهم لم يؤمنوا كاليهود بإله واحد. كانت آلهتهم متعددة، ذات صفات إنسانية، تنهزم وتنتصر وتعجز… ثم أيضا، لم تصر ديانتهم في أي وقت من الأوقات شريعة.
كان لكثير منهم نظر علمي بحت. وأبرز أفضالهم على البشرية أنهم ابتدعوا حرية الفكر وحرية المناقشة، يقول المؤرخ الإيرلندي جون بيوري في كتابه “حرية الفكر”.
كان سقراط يؤمن بأنه ليس على الأرض إنسان له الحق في أن يملي على الآخر ما يجب أن يؤمن به، أو أن يحرمه من حق التفكير كما يهوى.
منذ القرن السادس قبل الميلاد، تعرض كثير منهم للاضطهاد لكونهم أتوا بأفكار جديدة غير مألوفة.
مات طاليس وقد صدم الديانة، بأن الآلهة لا شأن لها بخسوف القمر، وأن الأخير ظاهرة جوية وحسب، وتبعه أناجزاجوراس… حين علم تلاميذه، أن الشمس قطعة من النار، وليست مركبة للآلهة كما تقول الديانة.
اقرأ أيضا: علم النفس الشعبي… “مرتع الخرافات” 1\3
ثم، منذ القرن الرابع قبل الميلاد، أخذ ديموقريطس يضع نظرية، غايتها الاستغناء عن الآلهة في تفسير أصل الكون ونهايته، لكن… لم يذكر التاريخ أن أحدا اضطهده لما يفعله، كما يقف على ذلك سلامة موسى في كتابه “حرية الفكر وأبطالها في التاريخ” الذي أشرنا له في الجزء الأول.
ديمقريطس هذا، كما يقدمه بيوري في كتابه، جاء بفتح عجيب، حينما فسر الكون على أساس النظرية الذرية، التي بعثت من مرقدها فيما بعد… في القرن 17م، إذ لم تعق ذهنه القصص الخيالية عن أصل الكون.
اقرأ أيضا: بين الأسطورة والعلم: الحواس خادعة… كيف غير العلم من إدراك الإنسان للواقع؟ 4/1
ثم جاء وراءهم سقراط، وقد كان أحد أوائل من دافعوا عن حرية النقد والمناقشة. لم يكن يتردد في مناقشة أي إنسان ينصت إليه، وفي محاولة إقناعه بتحكيم العقل في جميع المعتقدات الشائعة.
سقراط، ببساطة، كان يؤمن بأنه ليس على الأرض إنسان له الحق في أن يملي على الآخر ما يجب أن يؤمن به، أو أن يحرمه من حق التفكير كما يهوى.
بين الدين ورجال الدين…
الدين لم يضطهد الفكر، إنما رجال الدين كما سبق أن تابعنا في الجزء الأول…
نفهم من الإنجيل حين قراءته، أن المسيح لم يقصد وضع نظام كنسي جديد له كهنة وحكومة، وأن المسيحي الصادق في نظره، هو ذلك الذي يدخل غرفته ويصلي لربه بعيدا عن أعين الناس.
الذي حدث… أن المسيحية نشأت في حضن اليهودية، وعاش المؤمنون بها لفترة طويلة يعتبرون أنفسهم يهودا، لكن بمذهب خاص. هكذا، جرت في نظامها على ما وجدت عليه النظم اليهودية، حتى صار لها كهنة… الكهنة الذين اضطهدوا العلم والفلسفة لألف عام تقريبا.
المسيحية التي انتشرت منذ القرن الأول للميلاد، يقول سلامة موسى، هي مسيحية بولس وليست مسيحية المسيح، بعبارة أخرى؛ الدين للمسيح والكنيسة لبولس.
القرن الرابع الميلادي فصل بين عصرين مختلفين متناقضين. قبله، نجد نحو 800 عام من التفكير الحر الجريء، في ظل سيطرة آلهة تتسامح أحيانا مع الأفكار الجديدة، بل وتعجز أحيانا عن مقاومتها.
أما بعده، فثمة ألف عام من سيادة الكنيسة المسيحية، التي حاربت النزعة العلمية والبحث في العلوم والسياسة والآداب، مقتصرة على تدريس التوراة والإنجيل وبعض الكتب.
اقرأ أيضا: برونو كيدردوني: لا يمكننا أن نؤمن بشيء في المسجد وأن نؤمن بنقيضه في المختبر
المسيحية التي انتشرت منذ القرن الأول للميلاد، يقول سلامة موسى، هي مسيحية بولس وليست مسيحية المسيح، بعبارة أخرى؛ الدين للمسيح والكنيسة لبولس.
كل ما كان أهل القرون الوسطى يدرسونه، كان شروحات وتعليقات على الكتب اللاتينية، وعلى الإنجيل والتوراة، وعلى كتابين أو ثلاثة من كتب الإغريق القدماء، والشرح يليه شرح وشرح، وهكذا دواليك، على النحو الذي نعيشه الآن مع بعض الكتب العربية القديمة.
هذا في حين لو أننا نطالع المسيحية، في صيغتها الخام، كما جاء بها المسيح أول مرة، لكنا قد أنكرنا البابوية، بل والكنيسة والكهنة، ذلك أن المسيح دعا المؤمن به، أن يدخل إلى غرفته ويقفل على نفسه ويصلي… لكن ليس للتاريخ أن ينكر هذا، لأنه واقع قد حدث وكان له تأثير بالغ.
اقرأ أيضا: دولة “الإسلام”: من العدل والرحمة إلى الجور والاستبداد… حكم “السفاح المبيح” 3/3
تماما لو أننا ننظر إلى الدين الإسلامي في حد ذاته… نجرده حينها من أشياء كثيرة، بداية من الخلافة، وليس انتهاء بالتحرج من الصلاة بالحذاء ومن استنجاس الكلاب، لأننا لا نجد نصا بالخلافة في القرآن، ونعلم أن السلف الأول من المسلمين كانوا يدخلون الجامع ويصلون بأحذيتهم والكلاب تجتاز الجامع.
بيد أن هذه النظرة هي الأخرى تخالف الواقع، لأن الخلافة عاشت طويلا جدا، فيما بات استنجاس الكلاب واستقذار النعال من التقاليد القديمة في الإسلام.
يتبين إذن مما سبق، أن الكهنة والفقهاء ورجال الدين عموما، كان لهم دور بارز تاريخيا، في الحجر على الفكر واضطهاده، بل وتحديده، على الرغم من أن الدين نفسه، لم يدع إلى ذلك.
في الجزء الثالث… كيف حرم اضطهاد الفكر المسلمين من المضي قدما في طريق الحضارة؟
لقراءة الجزء الأول: الحرية الفكرية… بين سلطة الطابو وحتمية التطور! 4/1
لقراءة الجزء الثالث: الحرية الفكرية: هكذا حرم اضطهادُ الفكرِ المسلمينَ من المضي قدما في طريق الحضارة… 4/3
لقراءة الجزء الرابع: الحرية الفكرية… ما أهميتها في تحقيق النهضة الاجتماعية؟ وكيف نتعامل مع الأفكار الضالة؟ 4/4