أحمد المهداوي يكتب: وثوقية الخطاب الديني
يبحث السلفيون داخل النَّص عمَّا يمنحهم الحق تلقائياً في تمثيل الإرادة الإلهية على الأرض.
من هنا تبتدئ الرُّوح الدوجماطيقية في التَّفشي، حتَّى تحتل الجسد الإسلامي، فتكون الدوجماطيقية حينئذ مبدأ التَّعصب، وسمة التَّزمت، وأُسَّ التَّشدُّد، فيصير نفي المخالف أمرا واقعا باعتباره على باطل مطلق، ويدخل في دائرة الكفر، وتمسي ثقافة التَّسلط سائدة، بحيث يتم فرض أفكار وأيديولوجيات معينة على طريقة حياة المجتمع حتَّى يصبح على هيأة واحدة.
“إنَّ (ملَّاك الحقيقة) أناس ماضويون أصوليون لا ينظرون للحقيقة بوصفها إمكانا يولد من رحم النقاش والتناظر، بل يعتقدون أنها ميراث يتوارثه الأبناء عن الأجداد”
بهذه الكلمات المقتضبة، وصف “ذ. زين العابدين الخباز”، الباحث المغربي المتخصص في علم الاجتماع، من يتوهَّمون امتلاك الحقيقة. إذ كيف لمن يرفل في الماضوية، ويغرق في السَّلفية أن ينظر للحقيقة على أنها شيء نسبي، وهو يعتقد اعتقادا جازمًا أنَّها ميراثٌ يُتوارث خلفًا عن سلف؟
ولعمري فقد تعلَّق هؤلاء على مرِّ العصور بأهداب السَّلف، وظلَّ من على شاكلتهم يتمسَّح بأسمال من سبق، واستمسكوا استمساكًا وثيقًا بما سطَّره الشِّرب الأول من القرون الثَّلاثة الأولى، حتَّى أنَّه يكاد يبين على أنَّه الحقيقة التي لا مراء فيها، والحقُّ الذي لا يأتيه باطلٌ من بين يديه ولا من خلفه، ولقد اجتهد الخطاب الديني/السَّلفي في غرس هذه الفكرة في أذهان الجماهير العريضة المتحلِّقة أسرابا حول المنابر أو كراسي حلقات الذِّكر، وظلَّ هذا الخطاب في كلِّ عصر ومصر، يردِّد بلا كللٍ أو ملل عبارات ذات تأثير عاطفي/استلابي.
المقصود بالدُّوجماطيقية: الوثوقية، والاعتقاد الجازم، واليقين المطلق، وإنكار الآخر ورفضه باعتباره على باطل مطلق. على نفس المنوال، يتماهى الخطاب الديني/السَّلفي مع هذا الطرح، فهو يقطع بأن ما يحوزه من معارف ومعتقدات متوارثة من السَّلف حقيقة لا تقبل النِّقاش، وأن ما صدر عن الشِّرب الأول لا يجدر التعرض له، أو المساس به، ولا تغييره حتَّى، وإن تغيَّرت الظروف التاريخية، والسياقات المكانية والاجتماعية، فهي في وجهة نظر دعاة الخطاب الديني مقدَّسة، ومنزَّهة عن أي نقد.
نتيجة لهذا الأمر، تمرُّ تلك العبارات من قبيل مقولة مالك بن أنس المشتهرة في أوساط الإسلاميين، والسلفيِّين خصوصا (لن يصلح آخر هذه الأمَّة إلا بما صلح أوَّلها)، والتي علقَّ عليها الداعية الجزائري محمد البشير الإبراهيمي بالقول: “وصلاح أول هذه الأمة شيء ضربت به الأمثال، وقدمت عليه البراهين، وقام غائبه مقام العيان، وخلدته بطون التاريخ، واعترف به الموافق والمخالف، ولهج به الراضي والساخط، وسجلته الأرض والسماء. فلو نطقت به الأرض لأخبرت أنها لم تشهد منذ دحدحها الله أمة أقوم على الحق وأهدى به من أول هذه الأمة”.
مثل هذه العبارة، وغيرها كـ (كتابٌ وسنَّة بفهم سلف الأمة) إلى غير ذلك من شعارات رنَّانة، تظلُّ تقرع أسماع الجماهير المشدوهة، وتمرُّ على كيانها دون أن تتوقَّف عند جوهر وماهية تلك العبارات التي تتلقَّفها أسماعها لمناقشتها، بل تظلُّ تتناقلها محتفظة بمحتواها الهُلامي حتى تمسي وكأنَّها حقائق نهائية قطعية لا يمكن بأيِّ حال من الأحوال الخوض في كنهها، ولا التعليق على ما تحمل في طيَّاتها، ولا حتَّى تسليط ضوء التَّحليل العقلي على الغموض الذي يكتنفها.
إقرأ أيضا: الطريق إلى الإرهاب: واجب الجهاد ضدّ الجاهلية الجديدة
بالعودة إلى تلك الشعارات التي يروِّج لها الخطاب الديني/السَّلفي، نجد أن هذا الأخير لا يقبل مناقشة آراء واجتهادات السلف. من ذلك ما جاء في موقع “طريق الإسلام” أنه “لا يجوز لأحد أن يأخذ آية من كتاب الله ـ أو جملة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ثم بعد ذلك يفهمها ويطبقها بغير الفهم والتطبيق الذي كان عليه صحابة النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـــ ؛ إذ أنه من المعروف أن (العمل المتوارث المستمر من عصر الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم حجة شرعية يجب اتباعها، وتلقيها بالقبول)”، وبهذا يظلُّ دعاة هذا الخطاب يصرُّون على إلزام المجتمع باجتهادات فقهية دارِسة، ونصوص عفا عنها الزَّمن.
من هذا المنطلق، يبدو أنَّ الخطاب الديني/السَّلفي يتَّسم باللَّاعقلانية، فهو يعتقد اعتقادا خالصاً أنَّ السَّلف على صواب تام، والخلف على خطأ تام، ومثال ذلك ما ورد عند الباجوري:
فكلُّ خير في اتِّباع من سلف/ وكلُّ شر في ابتداع من خلف
فليست اللَّاعقلانية في الأصل عدم استخدام العقل فقط، بيد أنَّها تعني استعماله بطريقةٍ خاطئة أيضا، وهذا إن دلَّ فإنَّما يدل على أنَّ الخطاب الديني/السَّلفي خطابٌ دوجماطيقي يدَّعي استئثاره بالحقيقة من خلال التَّرويج إلى أنَّها ميراثٌ من السلف، ويضعُ حديث محمد نبي الإسلام كأرضية لذلك (افترقت اليهود على إحدى -أو اثنتين – وسبعين فرقة، والنَّصارى كذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النَّار إلا واحدة)، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: (ما أنا عليه وأصحابي). على أساس هذا الحديث – الذي رواه كلٌّ من أبي داود والترمذي والحاكم وابن حبَّان – يروِّج الخطاب الديني/السَّلفي إلى حقيقة مفادها أنَّ الفرقة المذكورة في الحديث آنفا، الحقُّ الذي لا مراء فيه، وما عداها الباطل.
إنَّ أساس الحاكمية، كما يطرحها الإسلاميون، لا يعني الاحتكام إلى الله بقدر ما يعني الاحتكام إلى من يعتقد أنَّه صاحب الحق الحصري في تفسير كتاب الله؛ الذي قال عنه علي بن أبي طالب نفسه: «هذا كتاب الله بين دفتي المصحف صامت لا ينطق ولكن يتكلم به الرجال»، أي أن القرآن يخضع في النهاية للتفسيرات البشرية المختلفة، لكن دعاة الحاكمية لا يلقون بالا لهذا القول
المقصود بالدُّوجماطيقية: الوثوقية، والاعتقاد الجازم، واليقين المطلق، وإنكار الآخر ورفضه باعتباره على باطل مطلق. على نفس المنوال، يتماهى الخطاب الديني/السَّلفي مع هذا الطرح، فهو يقطع بأن ما يحوزه من معارف ومعتقدات متوارثة من السَّلف حقيقة لا تقبل النِّقاش، وأن ما صدر عن الشِّرب الأول لا يجدر التعرض له، أو المساس به، ولا تغييره حتَّى، وإن تغيَّرت الظروف التاريخية، والسياقات المكانية والاجتماعية، فهي في وجهة نظر دعاة الخطاب الديني مقدَّسة، ومنزَّهة عن أي نقد.
إنَّ المتتبع لقنوات الخطاب الديني/السَّلفي، يلمس بلا شك في الخطاب الموجَّه إلى الجماهير عبر تلك القنوات، أو المنابر، أو حلقات الذكر، حالة من الجمود الفكري، تمتاز بالدَّوران في فلك المعتقد الأوحد، ويجد في ذات الوقت أنَّ الملتزمين (بالمعنى السلفي) يواجهون حالة من اللَّادحضية، أي القبول الخانع بكل ما تجود به قريحة الخطاب الديني.
فإذا كانت إثارة الشُّكوك في مشروعية البديهيات، أو بالأدق، في مشروعية المطلق قطب الرحى في الفلسفة، فاللَّاشكية في المقابل، تعتبر لبَّ فكرة الدوجماطيقية، إذ تنبني على الإيمان والتسليم المطلق لفكرة ما، سواءٌ تعلَّق الأمر بما هو ديني أو أيديولوجي حتَّى: إلَّا أنَّها تبرز بقوَّة عند أنصار الخطاب الديني الإسلامي، فهؤلاء اختلط لديهم الحابل بالنَّابل، فأمسى الإسلام في جوهره دينا ودولة كما أطلقت ذلك ابتداءً جماعة الإخوان المسلمين.
فإذا كانت العلمانية تُعنى بفصل الدين عن الدولة، والتَّفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق، فالخطاب الديني/السَّلفي بالمقابل، ينبني على فكرة الحاكمية، أي التَّفكير في النسبي بما هو مطلق، فيتساوى النِّسبي مع المطلق، وبهذا يقف موقفا معارضا للعلمانية، ويغفل أن الإسلام دين لا دولة، ورسالة روحية لا حكما سياسيا.
إقرأ لنفس الكاتب: التكفير والتطرف… من ابن تيمية إلى محمد بن عبد الوهاب وسيد قطب. أصل المأساة!
إنَّ أساس الحاكمية، كما يطرحها الإسلاميون، لا يعني الاحتكام إلى الله بقدر ما يعني الاحتكام إلى من يعتقد أنَّه صاحب الحق الحصري في تفسير كتاب الله؛ الذي قال عنه علي بن أبي طالب نفسه: «هذا كتاب الله بين دفتي المصحف صامت لا ينطق ولكن يتكلم به الرجال». أي أن القرآن يخضع في النهاية للتفسيرات البشرية المختلفة. لكن دعاة الحاكمية لا يلقون بالا لهذا القول، بل يبحثون في داخل النَّص عمَّا يمنحهم الحق تلقائياً في تمثيل الإرادة الإلهية على الأرض.
من هنا تبتدئ الرُّوح الدوجماطيقية في التَّفشي حتَّى تحتل الجسد الإسلامي، فتكون الدوجماطيقية حينئذ مبدأ التَّعصب، وسمة التَّزمت، وأُسَّ التَّشدُّد، فيصير نفي المخالف أمرا واقعا باعتباره على باطل مطلق، ويدخل في دائرة الكفر، وتمسي ثقافة التَّسلط سائدة، بحيث يتم فرض أفكار وأيديولوجيات معينة على طريقة حياة المجتمع حتَّى يصبح على هيأة واحدة.
إنَّ دوجماطيقية الخطاب الديني/السَّلفي، تجعله ينغلق على ذاته (السَّلفية) مما يؤدِّي إلى عدم الرغبة في فتح قنوات للحوار، والبحث عن أرضية مشتركة مع التِّيارات الأخرى. بذلك، يمسي الإسلاميون/والسَّلفيون خصوصا، متخلِّفين عن الرَّكب الحضاري، حيث شعوب العالم تتطور، وتظل الذَّات الإسلامية تدور في بوثقه التَّخلف، لا لشيء سوى لأنَّها لم تعرض تاريخها للنَّقد، ولم تنزع عن تراثها القداسة.