الاعتداء على الأطفال في المغرب: محاولة في فهم السياق الثقافي
مناسبة هذه المقالة هي بعض الأحداث التي شهدتها الساحة المجتمعية المغربية مؤخرا، واستأثرت باهتمام الرأي العام الوطني. ولعل أهم قضية، هي قضية اغتصاب الأطفال وقتلهم. في شهر سبتمبر فقط، شهدنا …
مناسبة هذه المقالة هي بعض الأحداث التي شهدتها الساحة المجتمعية المغربية مؤخرا، واستأثرت باهتمام الرأي العام الوطني. ولعل أهم قضية، هي قضية اغتصاب الأطفال وقتلهم.
في شهر سبتمبر فقط، شهدنا أكثر من فاجعة أهمها تلك التي حدثت في طنجة وذهب ضحيتها طفل صغير تم إغتصابه وقتله من طرف ” وحش آدمي” وكذلك فتاة صغيرة اختفت عن الأنظار في قرية نواحي زاكورة قبل أن يتم إكتشاف ما تبقى من جثتها؛ يتبين إثر التحقيقات التي باشرتها السلطات الأمنية أن الفاعل هو شخص إستغلها لاستخراج “الكنوز”. كما لا ننسى كذلك قضية عدة طفلات كن ضحايا اغتصاب وافتضاض بكارة من طرف إمام مسجد بنواحي طنجة.
ورغم ما لقيته هذه الجرائم من استهجان للفعل الشنيع، وتعاطف بالمقابل مع هؤلاء الأطفال الصغار، إلا أن ردود الفعل لم تخرج عن دائرة العاطفي ، إذ لم يرقَ النقاش إلى مستوى البحث وتحليل الأسباب العميقة لمثل هذه الظواهر.
إن الاكتفاء بالتفاعل النفسي يجعل الحدث يختفي بسرعة وينسى على إثر وقائع جديدة. لذلك، من الضروري محاولة الفهم العميق والمقاربة العلمية الصارمة للبحث عن أسباب هذه الظواهر، وكذا التدخل الحكومي والسياسة العامة في مجال حماية الطفولة.
اقرأ أيضا: من يوقف جرائم الاعتداء الجنسي على الأطفال؟
لذلك، فالمشكلة هي مظهر من مظاهر الأزمة المجتمعية التي يمر منها مجتمعنا، وهي ليست مرتبطة فقط باضطراب نفسي لدى المجرمين فقط، أو قصور لحكامة الدولة الأمنية أو حتى تقصير من طرف الأسرة، بل إن المسألة تضرب بجذورها في أعماق اللاوعي الجمعي والذهنية العامة للأفراد.
المشكلة هنا هي إعلان عن الارتطام بجدار العدمية الأخلاقية أو ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم بالأنوميا Anomie. هذا المفهوم مشتق من لفظة anomia اليونانية التي تعني غياب و لفظة nomos التي تعني القانون أو النظام. بمعنى مرحلة يفقد فيها المجتمع كل القيم ويتحول إلى حالة من “العدمية الأخلاقية” التي يليها التوحش ويسود فيها قانون الغاب.
لذلك، فنحن وصلنا لتلك المرحلة بالضبط أو نكاد، والدليل على ذلك ما نشاهده اليوم في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي تنشر الخبر في حينه بالصوت والصورة، وهو الأمر الذي ساهم بالتأكيد في النقاش المجتمعي الكبير حول هذه القضايا.
المجتمع المغربي بشكل خاص ومجتمعات الجنوب عموما، التي ترتفع فيها نسب الفقر والتنمية، وصلت لهذه المرحلة. ولا يجب أن نربط عوامل هذه الجرائم البشعة فقط بالعامل الاقتصادي، لأن الشخص الذي قتل الطفل عدنان كان يتوفر على عمل قار ولم يكن عاطلا عن العمل. لذلك فالسبب هو أخلاقي وقيمي بالأساس، لأن بنية العقل الجمعي المغربي تتصارع فيه منظومتان كبيرتان أو رؤيتان للعالم: رؤية تستند على التراث الديني والقيم الدينية الإسلامية، أي رؤية تقليدية ترتكز على الجماعة والدين والتراث، والأخرى رؤية حديثة ترتبط بالقيم المعاصرة من فردانية ووضعانية وعلمانية. وقد حدث اندماج هذه القيم بعد الاختراق الاستعماري للعالم الاسلامي، الذي وطن منظومة الحداثة لكنه لم يستطع القضاء على منظومة التقليد.
زد على ذلك أن الأنظمة السياسية التي تحكم اليوم لم تستطع أن تبني نموذجا سياسيا واضحا بطبيعة الانسان والمجتمع الذي تريده، فإما أنها زاوجت بين موروثها القديم وقيم الحداثة كما حدث في المغرب، أو أنها قطعت صلاها بالتقاليد واختارت المنظومة الحديثة كما هو شأن تركيا أتاتورك وتونس بورقيبة؛ أو أخرى رفضت قيم الحداثة بالمطلق مثل إيران الخميني لأنها غير قادرة على رفض الحداثة أصلا.
اقرأ أيضا: محمد علي لعموري يكتب: الإنجاب عند المغاربة بين المقدس ومنطق القبيلة
المجتمع المغربي هو إذن مجتمع تتصارع فيه هذه البنيتان، وما الفرد المغربي إلا عنصر في هذه المنظومة الكبيرة. لذلك فالتحليل الفلسفي العميق للمشكل هو القادر لوحده على الإمساك بتلابيب الظاهرة، وذلك من خلال فهم سياقها العام وإطارها التاريخي والاجتماعي. لذلك، فكل رؤية تجزيئية تقتطع المشكلة وتجزئها دون وضعها في سياقها هي محاولة سطحية وتافهة.
إن المغربي يعيش تناقضا قيميا خطيرا، وهذا التناقض استطاعت الأجيال التي تلت الاستعمار أن تتعايش معه. لكن فترة التعايش انتهت ودخل المجتمع في مرحلة الانفجار أو التفسخ القيمي، لأنه من المستحيل أن يظل الوضع كما هو. طبيعة التاريخ ترفض السكون، والقانون الكوني هو قانون التطور والجدل…
العالم المتقدم اليوم منسجم مع قيمه الحداثية، لكن مجتمعات الشرق لم تهضم بعد الحداثة وقيمها. لذلك تظهر بين الفينة و الأخرى أحداث تفضح النظرة السعيدة للمجتمع عن نفسه، فالفقيه الذي ينظر له على أنه القدوة وممثل القيم أصبح يغتصب الأطفال الذين ائتمنن على تربيتهم أخلاقيا؛ والجار الذي من دوره اعتبار أطفال جيرانه كأبنائه وعليه حمايتهم من كل شر يتربص بهم، أصبح هو القائم باختطافهم واغتصابهم وقتلهم؛ والأب الذي يسهر على تربية أبنائه ورعايتهم، أصبح هو السفاح الذي يقتلهم ويقطع جثتهم، كمشهد من فيلم رعب.
هناك من قد يعترض بالقول إن هذه حالات معزولة. فقط التضخيم الاعلامي هو الذي يصور الأمر كأنه حالة عامة في المجتمع. لكن الاحصائيات – رغم قلتها- هي الشاهد على أن الوضع الحالي الذي نمر به ليس بالعادي. فأن تقع أكثر من جريمة في المغرب بطريقة بشعة نحو فئات ضعيفة كالأطفال أو النساء أو كبار السن، هو أمر يعلن أننا وصلنا مرحلة الخطر، وأن الدولة لابد أن تحسم أمرها مع نفسها.
إن كان المجتمع منقسما بين الحداثة والتقليد، فالدولة عليها أن تحسم خياراتها الكبرى، من أجل الانخراط في قيم العصر والالتزام بالمواثيق الدولية التي وقعت عليها مثل “اتفاقية حماية الطفولة”. إن “ترك المجتمع ينضج شيئا فشيئا”، وهي المقولة التي يرددها المسؤولون ويجعلونها شعارا، أثبت التاريخ أنها غير صحيحة بالمرة، فإما أن ننخرط بالكامل أو نرفض بالكامل ! أما أن نضع رجلا هنا ورجلا هناك، فذلك سبب التمزقات الاجتماعية والتاريخية التي تنعكس سلبا على بعض الأفراد فيكسرون عُقال الآدمية ويتحولون إلى وحوش تقتل وتفتك بلا رحمة !
اقرأ أيضا: اختطاف الأطفال والرضع… ظاهرة تولد أم مجرد حالات معزولة لا تدعو للقلق؟