ياسين عدنان: أنا لغاتي
خارج الطرح الديني المنغلق الذي يقدّس اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن، تتوفّر المكتبة العربية القديمة على رفوف طويلة تضجّ بدواوين الغزل الحسي والخمريات وأشعار الكفر والإلحاد وقصص المجون وأدب النكاح. فيما يواصل الأدباء المغاربة بشغف إبداع نصوص بقدر ما تتمرد على التابوهات وتحرّر الفكر والمتخيّل، تحرّر اللغة أيضًا.
الهوية مسألةٌ لُغويةٌ في جذورها. لكن يجب الإقرار مع ذلك أننا نعيش اليوم زمنًا نعتبر فيه الهوية صيرورةً وليس مُعطىً نهائيًّا محسومًا. كما لم نَعُدْ نتحرّج من نُشدان هويتنا من داخل التعدّد. ولعل اعتراف دستور 2011 بالأمازيغية لغةً رسميةً إلى جانب العربية دليلٌ على أن مياهًا كثيرةً جرَتْ تحت الجسر.
أمّا الصراع التاريخي بين الفرنكفونيّين والمُعرَّبين في المغرب باعتباره مواجهةً بين فلول الاستعمار وحماة الاستقلال من جهة، أو تدافعًا بين أنصار التحديث وأتباع التقليد من جهة أخرى، فهو ضربٌ من ثنائيات الماضي البائدة.
الكثير من معارك الماضي كانت تقوم على عداءٍ يتّكِئُ على الجهل ويستثمر فيه. أما اليوم فأحسُّ أنّ عددًا من الجدران العازلة في طور التّداعي.
فالفرنسيةُ اليوم لغةٌ من لغات المغاربة، مثلها مثل العربية والأمازيغية تقريبًا. لذلك أعتبر القراءة بها ضروريةً ليس للانفتاح على العالم الخارجي فحسب، بل لمعرفة الذات قبل كلّ شيء. فأنا أحتاج الفرنسية لتكتمل معرفتي بالأدب المغربي، ما دامت نخبةٌ من أدباء بلدي تُنتج أعمالها بلغة موليير. ولحسن الحظّ، فأغلبُ المبدعين المغاربة اليوم مزدوجو اللغة، يقرؤون بالفرنسية مثلما يقرؤون بالعربية.
اقرأ لنفس الكاتب: المثقفون والحراك: منطق الابتزاز
الكثير من معارك الماضي كانت تقوم على عداءٍ يتّكِئُ على الجهل ويستثمر فيه. أما اليوم فأحسُّ أنّ عددًا من الجدران العازلة في طور التّداعي. فأنا أقرأ ماحي بينبين ومولاي الصديق الرّبّاج وعبد الله الطايع وإدريس كسيكس، وهم يقرؤون ما أكتب. بل بينهم من أتبادل معه الملاحظات بشأن مخطوطات كُتُبِنا قبل النشر.
اعتراف دستور 2011 بالأمازيغية لغةً رسميةً إلى جانب العربية دليلٌ على أن مياهًا كثيرةً جرَتْ تحت الجسر.
ثم إنّ عددًا من أدباء اللغة الفرنسية من الجيل الجديد هم من أبناء الطبقات الشعبية ممن تلقّوا تعليمهم في المدارس العمومية. ففي مراكش، لا تختلفُ طفولتي عن طفولة مولاي الصدّيق الرّبّاج أو ماحي بينبين أو محمد نضالي.
لذلك بالضبط أعتبر فرنسيتهم لغةً من لغات المغاربة، لأنهم تلقّنوها على نفس المقاعد الخشبية العتيقة التي اقتعَدْناها جميعًا.
اقرأ أيضا: بعض من كلام: أمبرطو إيكو، عيوش، الكلاب والحمار… بالدارجة الفصحى!!
سواءٌ كتَبْنا بالعربية أو بالفرنسية، فإننا نُنتج أدبًا مغربيًّا معاصرًا. لم تعد اللغة تفرّقنا، ما دام الخيال مغربيا، والوجدان مغربيا، والمكان مغربيا، والشخصيات مغربية. ويكفي أن تُتَرْجَم أعمالُنا إلى الهولندية مثلا لتضيع كل الفروق التي يُبالغ البعض في تقديرها بين العربية والفرنسية ولا يبقى أمام القارئ الهولندي سوى العمق المغربي لما نكتب: الخيال والوجدان أساسًا.
حينما يفوز محمد الأشعري بالجائزة العالمية للرواية العربية في أبو ظبي، أو تحرز ليلى سليماني جائزة الغونكور في باريس، أعتبر ذلك تتويجًا للأدب المغربي. بل حتى عندما يحصل عبد القادر بنعلي على جائزة ليبريس، أو تحصد نجاة الهاشمي التي تكتب بالكتالانية أرفع جوائز هذه اللغة، أعدُّ ذلك تأكيدًا على سموق شجرة الأدب المغربي متعدِّدة الأغصان.
شاهد أيضا: فيديو: حسن أوريد في ضيافة بيت ياسين عدنان
بهذا المنطق أشتغل أنا الآخر على لغتي، ومعي العديد من أدباء العربية. نكتب بلغة معاصرة. فصحى دون أن تكون كلاسيكية. عربية متجدّدة، حريصة على تلك الجذوة التي صنعت توهّج هذه اللغة في الماضي، والتي تصنع حداثتها اليوم. فقد كانت العربية لغة منفتحة على الدوام. حتى كتابها المقدس “القرآن” الذي أُنْزِل “بلسانٍ عربيٍّ مبين” يتضمّن أكثر من أربعين كلمة فارسية. ممّا يعني أنّ الصفاء اللغوي الخالصَ محضُ وهْمٍ ومجرّدُ أسطورة.
سواءٌ كتَبْنا بالعربية أو بالفرنسية، فإننا نُنتج أدبًا مغربيًّا معاصرًا
لذا، لا أعرف شخصيًّا كيف أغلقُ على “عربيتي الفصحى” النوافذ، كما لا أحرص على حمايتها من لغتنا المغربية الدّارجة، التي أعتبرها امتدادا طبيعيا للفصحى وأستفيد منها لإغناء لغتي الأدبية وتجديدها.
إن الجهل بالنصوص الجريئة التي أنتجها الأدب العربي عبر تاريخه، وعدم الانتباه إلى الأدوار التي يبذلها الأدباء المغاربة المحدثون منذ الستينيات من أجل تحديث اللغة العربية وتحريرها من قيودها الدينية والبلاغية والنحوية، هو الذي يجعل كاتبًا كبيرًا بالفرنسية (الطاهر بن جلون لكي لا أسمّيه) يصرّح بأنّه اختار الكتابة بالفرنسية لأنّه لا يستطيع مقاربة المواضيع “الحسّاسة” التي يتطرّق إليها في رواياته بلغته الأم.
لم تعد اللغة تفرّقنا، ما دام الخيال مغربيا، والوجدان مغربيا، والمكان مغربيا، والشخصيات مغربية
ولو كان هذا الكاتبُ مُلمًّا بالعربية مطّلعًا على آدابها، لاكتشف أنّ ما يردّده بصدد قصورها كلام يفتقر إلى النزاهة والجدّية في آن. فخارج الطرح الديني المنغلق الذي يقدّس اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن، تتوفّر المكتبة العربية القديمة على رفوف طويلة تضجّ بدواوين الغزل الحسي والخمريات وأشعار الكفر والإلحاد وقصص المجون وأدب النكاح. فيما يواصل الأدباء المغاربة بشغف إبداع نصوص بقدر ما تتمرد على التابوهات وتحرّر الفكر والمتخيّل، تحرّر اللغة أيضًا.
صحيح أن الهوية مسألةٌ لُغويةٌ في جذورها. لكن حينما يكون التعدّد والانفتاح هما الأصل، تتحوّل اللغةُ إلى لغات، وتغتني تجربة الكاتب عبر التفاعل اللغوي الخلّاق.
شاهد أيضا: فيديو: واسيني الأعرج وزينب الأعوج في بيت ياسين عدنان
ملحوظة: تم تقديم هذه الورقة في إطار المهرجان الثقافي “اقرأ عالمي” (Read my World) الذي نظم في أمستردام خلال أكتوبر 2019.