ناقد مغربي يقصف سكان القارة الزرقاء بقذيفة أرض جو، ويصفهم ب(المسحورين)الروائي والناقد محمد أمنصور يبدع كوجيطو جديد: "أنا فايسبوكي إذن أنا موجود"
يبعث محمد أمنصور، الأستاذ الجامعي بكلية الأداب مكناس، والروائي والناقد المغربي، رسالة غريبة الأسلوب ومضمرة القصد إلى سكان القارة الزرقاء. رسالة تجمع بين قوة المعنى وسخرية اللفظ، بين غزارة الدلالة …
يبعث محمد أمنصور، الأستاذ الجامعي بكلية الأداب مكناس، والروائي والناقد المغربي، رسالة غريبة الأسلوب ومضمرة القصد إلى سكان القارة الزرقاء. رسالة تجمع بين قوة المعنى وسخرية اللفظ، بين غزارة الدلالة وجزالة الرمز.
جاء في بداية الرسالة دعوة من سماهم بالإسكيميين والإسكيميات، بعدم الإستغراب من الرسالة التي كتبها إنسان لا يعلمون عنه شيئا، يقيم في بلد لم يسمعوا عنه قبل ذلك، لكنه يعلم أنهم يقيمون في الطرف الآخر الأقصى من الكرة الأرضية، كما يعلم أن حكومته لم يسبق لها زيارة بلدهم.
إن رسالة محمد أمنصور مفادها أن يخبر شعب الإيسكيمو ويخبر الجميع على أنه موجود وأن لديه دليلا على ذلك. دليله هو الفيسبوك، لكن في الآن نفسه يصف الذين اخترعوا هذا الأخير بالسحرة وأن مارك كبيرهم الذي علمهم السحر، كما يعتبر عصر الفيسبوك عصر نهاية العظماء مقابل الحقيرين.
يخبر جيل القارة الزرقاء أنه عاش فترة ماقبل الفيسبوك في هاته الرقعة التي لا يعلمون عنها شيئا، في جو فيه تلفزة واحدة بالأسود والأبيض تشرع في العمل بعد السادسة مساء، يقيم فيها عامل صاحب الجلالة وتأتمر بأوامر الداخلية.
بتهكم يستطرد: بعد الفايسبوك صار لكل واحد منا تلفزته هو الناهي فيها والآمر، يكون وحده فيها الملك.
اقرأ أيضا: استخدام المغاربة للشبكات الاجتماعية… حينما يصبح الافتراضي واقعا!
يحكي محمد أمنصور في رسالته بأسلوبِ “أحلى الشعر أكذبه”، أنه بعد الفيسبوك صار مولعا بنفسه، يلتقط له الصور صباحا ومساء، في كل الأوضاع والحالات. بل يحرص أن يعلنها على الملأ، فقط ليقول للجميع: انظروا كم أنا جميل عند الإستيقاظ وقبل النوم وبعد المكياج.
قبل الفيسبوك، يقر محمد أمنصور أنه كان يحسد ألان دولان ومايكل جاكسون وماضونا… أما بعده، يقول: تحررت من عقدي. لا أنتظر الموهبة أو الجدارة أو الصحافة حتى تسألني أو تلتقط لي صورا. صار بإمكاني، بدون وسامة ألان ولا بياض مايكل ولا جسد ماضونا، أن أملأ الدنيا ضجيجا، وأفصح عن أرائي وتصريحاتي متى شئت وأينما وجدت وأن ” أتقلق/ أغضب على الأمة ” كما أشاء.
بعد الفايسبوك، صار لكل واحد منا تلفزته هو الناهي فيها والآمر، يكون وحده فيها الملك
بلغة فيها ما فيها من عبثية لا تخلو من سخرية، يود أمنصور أن يخبر الجميع بما في ذلك شعب الإسكيمو (الفايسبوكيون)، أنه متى دخل أو خرج من الحمام، متى أكل “الزعلوك والملوخية” ومشتقاتهما… سيرفق أكله بصور إثباتية. أمنصور يعد الجميع أيضا إن تفوق إبنه على إبن الجيران، “فسيفقصه” عن طريق تلفزته كما عبر عن ذلك بالنقطة والفاصلة، حتى (يتشنج) له القلب.
اقرأ أيضا: “كتوبتنا”… مجموعة فايسبوكية تحتفي بالكتاب
وجاء في رسالة محمد أمنصور أيضا، أنه، قبل الفيسبوك، كان مصابا بداء السطريس. اليوم، شفي تماما لأنه بمجرد إحساسه بالسطريس، يصبه في تلفزيونه الخاص، (ليفقص؛ أي يرفع ضغط) أمة محمد بنرجيسيته وعدوانيته.
في الواقع، ليس أمة محمد وحدها بل أمة الإسكيمو كذلك، محيلا على أن وجودنا المستمر، وعرضنا اليومي تقريبا لأفراحنا وأحزاننا وأفكارنا وإبداعاتنا وتفاهاتنا، لم يعد ممكنا أن لا تعنيهم، فقد انتهت خرافة الجغرافيا.
يصرح أمنصور أيضا في رسالته بلغته الشعبوية المعهودة، (بلا خاطرهم): “هم مجبرون على متابعة أخبارنا”. ثم، بلهجة واثقة متعالية يقول: “ومتابعة أخباري أنا بالذات”.
ليس هذا كل ما في الأمر، بل أن الأستاذ الذي يعلم طلبته الحكمة واستخدام العقل، ويلقنهم مشارب الثقافة وينابيع الفكر، هاهو ذا سهوا كان أم عمدا يخبرهم ثم عبرهم يخبر الجميع، بضرورة أن يعلموا أن كوجيطو المرحوم ديكارت قد انتهت صلاحيته، وأننا هنا (يقصد أمام تلفزتنا الصغيرة المتنقلة) إخترعنا كوجيتو جديد. هو: “أنا فايسبوكي إذن أنا موجود!”.
ليس موجودا فقط كمتفرج على سعيد مسكر ومشتقاته من الويسكيات الغنائية التي لا ذوق لها، وليس كمتتبع لدنيا باطما، بل لأني أنا وهي (فيفتي فيفتي)، على حد تعبيره، حتى دون حنجرة اسمهان ولا قدم ميسي. الغريب أنه يضيف إليهما (سبينوزا) بأسلوب واستفهام بعيد كل البعد عن المنطق، وذلك حين يتساءل: من يكون سبينوزا؟ فيجيب كعادته بلغة ساخرة: هل كان له في حياته عدد “لي فان” (les fans) الذين يضغطون لايك، ويعلقون ويشاركون المنشورات كما يفعلون معي…؟؟
ثم، بغطرسة ونرجيسية يضيف: أنا أحسن من سبينوزا!!
اقرأ أيضا: هشام روزاق يكتب: من يحكم المغرب؟ … “جهات ما”
تنتهي الرسالة بمخاطبة سكان القارة الزرقاء، بالعبارة التالية: ها أنتم ترون أني، بفضل تلفزتي الخاصة، لا أحتاج إلى موهبة أو سيرة علمية أو فنية، حتى أنتقم من كل الذين احتكروا النجومية عبر التاريخ بدعوى “كبر” عندهم وحدهم.
فأمنصور الذي اكتشف وجهه الآخر “بالسيلفي”، يجزم أن لن يترك (وجها آخرا) يمر إلا على جتثه، فوحده سيصنع الخبر ووحده سيصنع الحدث، أو بعبارته التي استعملها بوضوح (وحدي أضيئ البلاد ومن لم أعجبه (ينفجر) فأنا موجود، ورب الكعبة أنا موجود..!
إن هذه الرسالة التي تبدو بسيطة في ظاهرها، تحمل بين جوهرها معاني ناسفة لسكان القارة الزرقاء، وإلى كل مستعملي الفيسبوك الذين يوظفونه في تفاهات وحماقات لا حصر لها.
“من يكون سبينوزا؟ هل كان له في حياته عدد (les fans) الذين يضغطون لايك، ويعلقون ويشاركون المنشورات كما يفعلون معي…؟؟ أنا أحسن من سبينوزا!!
إن الغريب في الرسالة المبالغ فيها نسبيا، أن أمنصور من القلة القليلة التي تعتزل التكنولوجيا ومواقع التواصل الإجتماعي جوهرا ومبدأ، الشيئ الذي رفضه بعض القراء. إذ كيف لشخص خارج العالم الأزرق، يرفض الإنخراط والتفاعل في دواليبه، أن يدلي بدلوه بأسلوب متغطرس تغلب عليه لغة السخرية أكثر من اللغة النقدية؟؟
لذلك، انقسم قارؤوها مابين مؤيدين لمضامينها، وبين معارضين لها، لما فيها من مبالغة وقسوة مضمرة على مستعملي الفيسبوك.
ويبقى محتوى الرسالة ومقصديتها لغاية في نفس محمد أمنصور وحده دون غيره.
في الختام، سواء اتفقنا أو اختلفنا مع محمد أمنصور، فإننا نرفع له القبعة، لأنه رغم القسوة المتوارية خلف أسطر الرسالة، إلا أنها تعكس واقعا كئيبا لقارة بئيسة. كما أنها قالت ما ينبغي قوله سرا وعلانية بعدما أسقطت ما استطاعت إليه من الأقنعة.