من مصر، محمد حميدة يكتب : تذكرة ذهاب فقط!
فيما كانت عقارب الساعة تقترب من الثالثة فجرا، كنت في جلستي المعتادة في شرفة الشقة التي تقع في الدور الأخير، نظرا لرغبتي الدائمة بالتأمل في السماء ليلا دون أي حواجز. أمامي …
فيما كانت عقارب الساعة تقترب من الثالثة فجرا، كنت في جلستي المعتادة في شرفة الشقة التي تقع في الدور الأخير، نظرا لرغبتي الدائمة بالتأمل في السماء ليلا دون أي حواجز.
أمامي الكثير من الكتب المبعثرة فوق الطاولة، وفنجان القهوة، ونبات الصبار الذي يتحمل العطش لأيام طويلة قد انشغل فيها دون الانتباه إلى أنني لم أروه.
في ذلك الوقت، كانت رأسي محملة بمئات التساؤلات والقضايا التي يصعب الإجابة عليها، ومع دقات الثالثة بالتحديد، بعد أن فرغ كوب الشاي، وصلتني رسالة من صديقي السوري الذي غادر مصر منذ ما يقرب من الشهر، ليخبرني أنه وصل إلى إيطاليا.
جلسنا طويلا نتحدث عبر الرسائل الهاتفية، عن رحلته إلى هناك. غير أن الحديث انحاز بنا طوال الوقت إلى عملية المقارنة بين الحياة في المجتمعات التي ننتمي إليها وبين الحياة في إيطاليا.
اقرأ أيضا: فاروق سلوم ـ أوهام الهجرة والاندماج. بداوة عربية في أرض المهجر
طوال حديث صديقي، لم أكن منبهرا بما يقوله. ربما لكوني أعتز بعروبتي وبمصريتي برغم كل ما نعيشه من أوجاع وهموم الحاضر وضبابية المستقبل الباهت. إلا أن حديث صديقي دفع كل التساؤلات التي كانت تتعارك في رأسي وحل محلها تساؤلات أخرى، تتعلق بذات الأمر: المقارنة.
مع تلك المقارنة، حضر تساؤل آخر يتعلق ببلدان منطقتنا، من مشرقها إلى مغربها، والتي كانت وما تزال محل مطامع العديد من الدول الأجنبية.
تساءلت قليلا، لم المطامع في بلادنا وهي بلاد فقيرة يعيش نحو نصف سكانها تحت خط الفقر؟
فإذا بصوت يجيبني من بعيد، ربما كان يعبر من الفضاء الشاسع الممتد فوق شرفتي: “بلادكم ليست فقيرة. الفقر في العقول التي تتحكم في مصائر الأشياء”.
رددت دون وعي حينها بأن عقولنا ليست فقيرة؛ والدليل هو أن معظم شباب منطقتنا الذين سافروا إلى دول أخرى نجحوا وتفوقوا بشكل كبير، فلماذا لا يكون هذا النجاح على أرضنا وبين أهلنا، لتنتفع به الأجيال القادمة بدلا من المستقبل الباهت الذي ينتظرها؟
عاد صديقي بجملة ربما لخصت كل معارك الأسئلة الدائرة في رأسي، رغم أنه لم يطلع عليها قائلا: “تعرف يا صديقي؟ لقد قطعت تذكرتي ذهابا فقط، ولا أنوي العودة مجددا”.
قاطعت حديثه دون كثير اقتناع، في محاولة للتمسك بأشياء قد لا تتمسك بنا: “لعلك ولعل كل من يفكر في السفر محق، في اتخاذ هذا القرار. لكن، ماذا لو هجر كل منا داره؟ هل يأمن على أهل بيته؟ هكذا هي الأوطان يا صديقي، إذا هجرناها تهنا وتاهت. لابد أن نحاول أكثر من مرة. لا بد أن نسافر ونعود ونضحك ونبكي حتى تبقى إذا ما رحلنا.
الأوطان يا صديقي لا يمكن أن نكرهها بسبب كرهنا لنظام ما أو حكومة أو أشخاص جلسوا على قمة المراكز فيها وسرقوها ونهبوها. هي الحياة يا صديقي. الخير والشر والنزاهة والسرقة… كل المتضادات ستبقى ما دامت على وجه الأرض حياة.
رد صديقي قائلا: “لماذا تنتعش هذه المتضادات بشكل أكبر في مجتمعاتنا؟”
انتابتني حالة من الصمت ولم أجد إجابة…. لعل أحدكم يملك الرد؟
* محمد حميدة شاعر وقاص وصحافي مصري