من نيويورك. هشام الرميلي يكتب: ذات وطن… البوليسي والسكران - Marayana - مرايانا
×
×

من نيويورك. هشام الرميلي يكتب: ذات وطن… البوليسي والسكران

… خمنت أن الرجل السكران كان أكثر حظا من كل هؤلاء، وأنه محظوظ أن أسلم روحه لبارئها بسرعة، وفوق الأرض وليس تحتها، ومحظوظ أن سمع بخبره الناس وعلمت الصحافة، على الأقل سيحظى بقبر معلوم.
لن يحمل معه إلى مثواه الاخير ندوبا كثيرة في قلبه، وغصة حارقة، مثل التي حملها معهم المعذبون في الأقبية السرية…

بين الفينة والأخرى، يذكرني فايسبوك ببعض التدوينات أو الفيديوهات، التي سبق أن شاركتها مع الأصدقاء.

مما ذكرني به مؤخرا؛ فيديو لشرطي مغربي، يركل برجله مجموعة من الشباب المتظاهرين أمام البرلمان، وكانوا كلما فروا منه، تعقبهم وطوح برجله وانهال عليهم ضربا، بل لم يتردد في توجيه صفعة قوية لفتاة متظاهرة…

قصص البوليس وحكاياهم مع المواطنين، دائما تنبش في ذاكرتي، وتجد طريقها بسهولة نحو ذكرى حزينة قديمة لا تبرح ذاكرتي…

كانت “العشية عشات والليل راح” على قول خالدة “ناس الغيوان“… وانعكس ضوء المصابيح الصفراء خافتا على سور المدينة القديمة المقابل لمركز الشرطة، ضاربا عليه مسحة خفيفة من الحزن. بدا السور شاحبا وكأنه يُنبئ بما سيقع في تلك الليلة الحزينة الكئيبة.

سأظل سجينا لقصة الشرطي والسكران والمركز المشؤوم، وأعلم الآن أنها لم تعد ذكرى تجتاحني بين حين وآخر، بل أصبحت متلازمة تلاحقني أعراضها وعلاماتها، ما دُمت على ارتباط وثيق مع هذا المركز الكبير المسمى…وطن.

جلست فوق عتبة حانوت أبي المحاذي للمركز، وجعلت أعاكس بعيني خيط الضوء الرقيق المنبعث من عمود الضوء البعيد. كان المكان غارقا في صمت ثقيل، وحده صوت مذيع القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية المنبعث من راديو الحانوت، كان يكسر صمت المكان بصوته الإذاعي الرخيم ….

لم ينتشلني من هذا الرتابة، إلا صوت جمهرة من الناس يتناهى صراخها من بعيد… وقفت أستجلي الأمر… فتبينت وسط الحشد امرأة منقبة -على الطريقة المغربية- تمسك بتلابيب رجل ربعة أشيب يرتدي بدلة رمادية، يترنح في مشيته وتبدو عليه بوضوح حالة سكر طافح…

إقرأ أيضا: سعيدة المنبهي… ثورية لم يقتلها الموت 2/1

كانت المرأة تمسك بخناقه، وتكيل له السباب والشتائم، وكان يمشي من ورائهما خلق كبير من الفضوليين.

جعلت أتتبعهما حتى دخلت به إلى المركز، وخرج الشرطي ليفرق الناس ثم عاد الى الداخل وصفق الباب من ورائه… كان الصراخ يتناهى إلى مسمعي من خلال النافذة المطلة على حانوتنا، لكن ما لبث أن خرج الشرطي من جديد وقصد هذه المرة محل “السيكليس” ثم قفل مسرعا وهو يحمل “كروا” سوداء في يده..

طلب مني عمي أن أدخل إلى الحانوت، بعدما ارتفعت صرخات الرجل وهو يستغيث تحت تأثير ضربات السوط، وخرج بعض من عناصر المركز ليفرقوا الناس المتحلقين…

لم يمض وقت طويل حتى انقطعت الصرخات… ولم يدم الأمر بعد ذلك إلا دقائق حتى توقفت سيارة الإسعاف الصفراء… وانتشر خبر أليم… لقد مات الرجل تحت تأثير الضربات المبرحة.

تسللت من الحانوت ورأيت رجال الاسعاف يحملون الرجل وقد غطوا جثته بإزار أبيض… جعلت أمد رأسي إلى نافذة سيارة الاسعاف أسترق الرؤية الى الداخل… كانت الجثة هامدة، وكانت أشعة آلات التصوير وهي تلتقط الصور، بعد أن شاع الأمر وعلمت الصحافة، تزيد الموقف رهبة وجلالا…

 لم يكن ما فعله الشرطي في المركز هو كل ما يوجد في رأس الجلاد وفي مخياله القمعي. اعتقدت أنه لا يمكن أن يكون هناك ماهو أكثر من الضرب المبرح حتى الموت… لكني قرأت لأعرف أن “الحاج” كان يلتجئ إلى الصعق بالكهرباء في الأماكن الحساسة… ولا يتورع في التوسل ب”القرعة”، وضروب أخرى من التعذيب النفسي والجسدي

لم أجرؤ بعدها على المرور بجانب المركز… أصبح يبدو لي مخيفا يشرئب من جوانبه الموت، وأضحى مكتبه الكالح يرعبني وكراسيه الحديدية السوداء والخزانة الصدئة وسقفه القصديري… حتى التلفون الرمادي الذي كان يرن جرسه بقوة أصبح رنينه المدوي يخيفني… أصبح المركز مرادفا للموت وظل الشرطي بسحنته الرقيقة وملامحه القاسية المتجهمة يتراءى لي في كل المراكز.

بقيت هذه القصة لصيقة بذاكرتي وتعاودني تفاصيلها في كل مرة تَفْجُر فيها أجهزة القمع. كبرت لأعرف أن ما فعله البوليسي بالرجل الربعة الأشيب السكران، كان مذهبا بسيطا، مقارنة بما كان يُفعل في نفس الوقت، في أقبية الموت تحت الأرض، بأبناء الوطن وشرفائه.

إقرأ أيضا: من محسن فكري إلى مُحسن أخريف… والموتُ صاعق!

تذكرت قصة الشرطي والسكران في محطات عديدة، في قضية محسن فكري، حين كان الخبر، أنه… بضغطة زر تقلص الجسد المتمرد وتكسرت ضلوعه. ضُغط كما النفايات ونزل الدم المسفوك على الإسفلت مختلطا بعصير الأزبال… هكذا يتصور الجلاد ضحيته، فضلة من الفضلات، مكومة ومضغوطة مع النفايات لن يسائله فيها أحد.

تذكرت قصة الشرطي والسكران، وأنا أقرأ في أدب السجون، ورجعت بذاكرتي إلى الأحداث الأليمة، وأنا أتابع ما كان يفعله الجلاد “الحاج” مثلا في رواية “العريس” لصلاح الدين الوديع.

لم يكن ما فعله الشرطي في المركز هو كل ما يوجد في رأس الجلاد وفي مخياله القمعي. اعتقدت أنه لا يمكن أن يكون هناك ماهو أكثر من الضرب المبرح حتى الموت… لكني قرأت لأعرف أن “الحاج” كان يلتجئ إلى الصعق بالكهرباء في الأماكن الحساسة… ولا يتورع في التوسل ب”القرعة”، وضروب أخرى من التعذيب النفسي والجسدي لا تخطر حتى على بال شيطان، يقف لها الشعر وترتعد الفرائص… و هي كلها صور تثير الرعب، و تثير الكثير من الأفكار المرعبة حول الجلادين و السجون والأقبية، وهي كفيلة بأن تجعل أي مغربي يمشي إلى جنب الحائط، و هو متوجس وخائف من أن تحصي عليه الأذان المتحسسة في كل زاوية أنفاسه…

أساليب كان هدفها، أن يدخل الانسان إلى ردهاتهم، ليفقد كل إنسانيته ويتجه نحو النهاية، ويحل به الفناء ليموت حيوانا وقد تم تجريده من كل آدميته، فالجلاد لا يمكن أن يحافظ على توازنه وتماسكه، إلا بالإغراق في تعذيب ضحيته حتى ينزل بها إلى مستوى الحيوان، لينتفي لديه الشعور بالذنب والإساءة…

في أوراق سنوات الجمر والرصاص، وشهادات معتقلي تزمامارت سوف تتسع مداركنا، وينضج فهمنا لسيكلوجية الجلاد وأساليبه. سنلج بطريقة أكبر إلى ردهات الجلادين وأقبيتهم المظلمة. سينقشع الكثير من القبح، وستتجلى الكثير من الفظاعات. سيكون ما هو نفسي فيها أقبح وأفظع من كل العذاب المادي المسلط… الحبس الانفرادي والعتمة المطبقة لإعطاء الإحساس بالنهاية و الفناء… وترك المعتقلين عرضة للمرض والأوبئة إلى درجة أن تأكلهم الأرض كما في حالة “محمد غالو” في الرواية الشهيرة لأحمد المرزوقي.

أساليب كان هدفها، أن يدخل الانسان إلى ردهاتهم، ليفقد كل إنسانيته ويتجه نحو النهاية، ويحل به الفناء ليموت حيوانا وقد تم تجريده من كل آدميته، فالجلاد لا يمكن أن يحافظ على توازنه وتماسكه، إلا بالإغراق في تعذيب ضحيته حتى ينزل بها إلى مستوى الحيوان، لينتفي لديه الشعور بالذنب والإساءة…

إقرأ لنفس الكاتب: “سي محمد الريحاني”، ذاك الذي علمنا معنى الوطن… ومعنى الحرية

خمنت أن الرجل السكران كان أكثر حظا من كل هؤلاء، وأنه محظوظ أن أسلم روحه لبارئها بسرعة، وفوق الأرض وليس تحتها، ومحظوظ أن سمع بخبره الناس وعلمت الصحافة. على الأقل سيحظى بقبر معلوم، ولن يحمل معه إلى مثواه الأخير ندوبا كثيرة في قلبه، وغصة حارقة، مثل التي حملها معهم المعذبون في الأقبية السرية.

سأظل سجينا لقصة الشرطي والسكران والمركز المشؤوم. أعلم الآن أنها لم تعد ذكرى تجتاحني بين حين وآخر، بل أصبحت متلازمة تلاحقني أعراضها وعلاماتها، ما دُمت على ارتباط وثيق مع هذا المركز الكبير المسمى… وطن.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *