من أشهر المتهمين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي: أعظم أطباء الإنسانية… الرازي (الجزء الرابع)
نواصل الملف في هذا الجزء مع حكاية اتهام بالإلحاد وجه لرجل يعد من أبرز الأطباء في تاريخ البشرية… والحديث هنا عن أبي بكر زكريا الرازي.
بعدما تابعنا في الجزء الأول شذرات عامة عن الإلحاد في التاريخ الإسلامي، ثم بدأنا منذ الجزء الثاني، في تقديم حكايات بعض من أشهر الذين اتهموا بالزندقة في الإسلام، كان أولاها حكاية ابن المقفع وثانيها حكاية ابن الراوندي… في هذا الجزء الثالث، نواصل الملف مع حكاية اتهام رجل يعد من أبرز الأطباء في تاريخ البشرية بالإلحاد، والحديث هنا عن أبي بكر زكريا الرازي.
اسمه الكامل أبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي. ولد في الري (إيران) عام 250هـ، وتوفي في ذات المدينة عام 311 هـ. يعد الرازي واحدا من علماء العصر الذهبي للعلوم، ويصفه البعض بـ”أعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق”.
ألف الرازي كتاب “الحاوي في الطب”، الذي ضم جميع المعارف الطبية منذ أيام الإغريق وحتى عهده بالحياة. هذا الكتاب ظل المرجع الرئيسي في الطب بأوروبا بعد ذلك بـ400 عاما. الرازي برع أيضا في الرياضيات والفلسفة والفلك والكيمياء والمنطق والأدب.
اقرأ أيضا: البيمارَسْتانات… مستشفيات العرب في صدر الإسلام! 1\3
بصفته طبيبا، كُتبت عن الرازي دراسات كثيرة. أما بصفته فيلسوفا، فالدراسات عنه بدأت متأخرة.
لا تتوفر لدينا اليوم صورة صادقة لمذهب الرازي، وذلك بسبب اندثار النصوص الأصلية لهذه الكتب. كل ما لدينا في هذا الباب، يرجع إلى ما يورده الخصوم من عرض لمذاهبه وأقواله، وهو نادر وغير دقيق.
لم تحظ الفلسفة الأخلاقية للرازي وفلسفته العامة في الوجود بدراسة شاملة، لكن الجانب الإلحادي في ذلك يظهر، حسب متهميه بالإلحاد، أنه قد ضمنه في كتابيه “العلم الإلهي” و”مخاريق الأنبياء”.
على أنه لا تتوفر لدينا اليوم صورة صادقة لمذهب الرازي، وذلك بسبب اندثار النصوص الأصلية لهذه الكتب. كل ما لدينا في هذا الباب، حسبما يؤكده المفكر المصري عبد الرحمن بدوي في كتابه “من تاريخ الإلحاد في الإسلام”، يرجع إلى ما يورده الخصوم من عرض لمذاهبه وأقواله، وهو نادر وغير دقيق. سواء بنصها مبتورة من سياقها، أو اختصارا وبالمعنى فحسب.
هذه النصوص، كما أوردها خصوم الرازي، تظهر أن نظرية النبوة، كعادة الملحدين العرب (الجزء الأول)، كانت الشاغل الأكبر في نقد الرازي للأديان؛ إذ أنه كان لا يؤمن بالنبوة. وقد كان نقده لها يقوم أحيانا على اعتبارات عقلية، وأحيانا أخرى تاريخية.
آمن الرازي، كما ابن الراوندي، أن العقل وحده يكفي لمعرفة الخير والشر. لذا، لا توجد أي مدعاة لإرسال أناس يختصون بهذا الأمر من الله.
والافتراض هذا، يؤيده مدح الرازي للعقل، بخاصة في بدايات كتابه “الطب الروحاني”.
الرازي، على خلاف ابن الراوندي، يزيد في توكيد مناقب العقل، فينسب إليه ما لا يتصل بالأخلاق فقط، إنما أيضا ما يتصل بالمسائل الإلهية. يتضح ذلك في قوله: “به (العقل) وصلنا إلى معرفة البارئ عز وجل”.
يقول هناك:
“إن البارئ… أعطانا العقل وحبانا به… وإنه أعظم نعم الله عندنا وأنفع الاشياء لنا وأجداها علينا… وبه أدركنا الأمور الغامضة البعيدة منا الخفية المستورة عنا… وبه وصلنا إلى معرفة البارئ عز وجل… وإذا كان هذا مقداره ومحله وخطره وجلالته، فحقيق علينا أن لا نحطه عن رتبته ولا ننزله عن درجته، ولا نجعله وهو الحاكم، محكوما عليه، ولا وهو المتبوع، تابعا، بل نرجع في الأمور إليه ونعتبرها به ونعتمد فيها عليه…”.
الرازي، على خلاف ابن الراوندي، يزيد في توكيد مناقب العقل، فينسب إليه ما لا يتصل بالأخلاق فقط، إنما أيضا ما يتصل بالمسائل الإلهية. يتضح ذلك في قوله: “به وصلنا إلى معرفة البارئ عز وجل”.
هذا ما يقطع إذن، حسب متهمي الرازي بالإلحاد والزندقة، بأن النبوة عنده أصبحت لا مبرر لها، ما دمنا نعرف بالعقل كل شيء أخلاقي وإلهي، فالنبوة لا تقوم بأكثر من هذا.
اقرأ أيضا: أسماء بن العربي تكتب: أنت مغربي؟ لا تمرض من فضلك
إنكار النبوة عند الرازي، كما يزعم خصومه، قام أساسا على:
– العقل وحده كاف لمعرفة الخير والشر في حياة الإنسان، ولمعرفة أسرار الألوهية، ولتدبير أمور المعاش وطلب العلوم والصنائع (ما الحاجة إلى الأنبياء لهداية الناس إلى هذا كله؟).
– لا معنى لتفضيل بعض الناس واختصاص الله إياهم بإرشاد الناس جميعا، إذ الكل يولدون متساوين في العقول والفِطَن. التفاوت يوجد في تنمية المواهب الفطرية وتوجيهها وتنشئتها.
– الأنبياء متناقضون فيما بينهم. وما دام مصدرهم واحدا فيما يقولون، وهو الله، فإنهم لا ينطقون عن الحق، ومن ثم فالنبوة باطلة.
نتيجة لكل هذا، نقد الرازي الأديان جميعها دون تمييز بينها. هذا ما يبين، وفق بدوي، أن إلحاد الرازي لم يكن باسم مذهب ديني معين، ولم يكن موجها للإسلام وحده، إذ أنه بعد تبيانه للتناقض العام بين مختلف الأديان الرئيسية، تناولها بالدحض واحدا بعد الآخر.
على أن القرآن، من بين الكتب المقدسة الأخرى، نال حيزا مهما من نقد الرازي حسب ما أورده خصومه، وكان ذلك من ناحيتين، النظم والمعنى.
لقد كانت الكتب العلمية أكبر فائدة ونفعا من القرآن والكتب الدينية عامة؛ ذلك أن فيها فائدة للناس في معاشهم وأحوال دنياهم، خلاف القرآن الذي لا يفيد شيئا، على حد الرأي الذي ينسبه خصوم الطبيب الشهير له.
من الناحية الأولى مثلا، يقول في ما يورده بدوي في كتابه:
“إنكم تدعون أن المعجزة قائمة موجودة، وهي القرآن، وتقولون: “من أنكر ذلك فليأت بمثله. إن أردتم بمثله في الوجوه التي يتفاضل بها الكلام فعلينا أن نأتيكم بألف مثله من كلام البلغاء والفصحاء والشعراء وما هو أطلق منه ألفاظا وأشد اختصارا في المعاني، وأبلغ أداء وعبارة وأشكل سجعا، فإن لم ترضوا بذلك فإنا نطالبكم بالمثل الذي تطالبونا به”.
لقد كانت الكتب العلمية أكبر فائدة ونفعا من القرآن والكتب الدينية عامة؛ ذلك أن فيها فائدة للناس في معاشهم وأحوال دنياهم، خلاف القرآن الذي لا يفيد شيئا، على حد الرأي الذي ينسبه خصوم الطبيب الشهير له.
بناء على هذا، يظهر أن الرازي كان مؤمنا بالله… ملحدا بالأنبياء وما جاؤوا به… ومعليا قدر العقل وسلطانه.
اقرأ أيضا: هل العبقرية، ضربٌ من الجنون؟ 2\2
لكن…
علينا أن نتذكر في المقابل، إن للرازي، كتابا مهما وهو “إن للعبد خالقا”.
وعلينا أن نتذكر أكثر، ما قاله الإمام الذهبي عن الرازي في “سِير أعلام النبلاء”:
“أبو بكر، محمد بن زكريا الرازي الطبيب، صاحب التصانيف، من أذكياء أهل زمانه، وكان كثير الأسفار، وافر الحرمة، صاحب مروءة وإيثار ورأفة بالمرضى، وكان واسع المعرفة، مكبا على الاشتغال، مليح التأليف… وله كتاب: الحاوي، ثلاثون مجلدا في الطب، وكتاب “إن للعبد خالقا”.
… والأهم في الحكاية، هو أن اتهام الرازي بالإلحاد والزندقة، أدى بطبيعة الحال، إلى النتيجة التي سعى لها خصومه منذ البداية… فتم قتله.
في الجزء الخامس، نتابع الملف مع حكاية أخرى للاتهام بالإلحاد، تطال هذه المرة أبا العلاء المعري، الرجل الذي كان واحدا من أبرز شعراء العصر العباسي.
لقراءة الجزء الأول: الإلحاد في تاريخ الإسلام: حين استنفدت الروح العربية قواها الدينية! (الجزء الأول)
لقراءة الجزء الثاني: من أشهر المتهمين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي: ابن المقفع (الجزء الثاني)
لقراءة الجزء الثالث: من أشهر المتهمين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي: ابن الراوندي (الجزء الثالث)
لقراءة الجزء الخامس: من أشهر المتهمين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي: أبو العلاء المعري (الجزء الخامس)
لقراءة الجزء السادس والأخير: علماء حاربهم الفقهاء… هؤلاء 6 من أهم علماء الإنسانية المسلمين الذين اتهموا بالزندقة والكفر (الجزء السادس والأخير)
من يؤمن بالله واليوم الآخر فكيف يمكن له أن ينكر النبوه والرساله؟