هل العبقرية، ضربٌ من الجنون؟ 2\2
منذ أخذ الإنسان يطلق على سر ما، اسم “عبقرية”، وهو يحاول تفسير لغزه. بعض من تفاصيل ذلك، رأيناها في الجزء الأول من هذا الملف. وعطفا عليها، ثمة أيضا من اعتقد ولوقت طويل، …
منذ أخذ الإنسان يطلق على سر ما، اسم “عبقرية”، وهو يحاول تفسير لغزه. بعض من تفاصيل ذلك، رأيناها في الجزء الأول من هذا الملف. وعطفا عليها، ثمة أيضا من اعتقد ولوقت طويل، أن العبقرية ليست سوى ضربا من الجنون. رأي نخوض في مدى صحته، ضمن هذا الجزء، الثاني والأخير، مستعينين بآراء مجموعة من المبدعين والعلماء.
ربما قد قرأت في مكان ما هذا الاقتباس: “أجمل الأشياء هي تلك التي يوحي بها الجنون ويكتبها العقل”. إنه للكاتب الفرنسي أندري جيد.
لمدة طويلة، اعتقد القدماء أنه لم توجد أي موهبة فطرية عظيمة دون مس من الجنون، مع أنهم لم ينسبوا إلى الموهبة الفطرية أو الجنون أيَّ معنى يترجمها بطريقة مقنعة إلى عبقرية. بصياغة أخرى، يقولون إن العبقرية جنونٌ، دون تقديم تفسير لهذا الأمر.
شيكسبير قال يوما ما معناه إن المجنون والعاشق والشاعر، يؤلف بينهم الخيال أجمعين. لم تكن هذه اللفتة مدهشة للجمهور، لكنها وفق كتاب “العبقرية” الذي أشرنا له في الجزء الأول من هذا المقال، كانت لفتة ذكية، ذلك أن إشارته إلى الخيال كانت شيئا جديدا.
ابتداءً من القرن التاسع عشر، أخذت آراء أخرى أكثر عقلانية تظهر إلى الوجود، تقيم ما إذا كانت العبقرية فعلا تعبيرا عن الجنون.
من هنا، نزل العقل النبيل الجليل، باعتباره الصفة الرئيسية للعظماء، عن عرشه الرفيع، وحلت محله الأصالة والخيال. وباعتباره أرفع الكائنات شأنا، حل الفنان محل الحكيم. هكذا، ولدت الفكرة الحديثة عن العبقرية.
اقرأ أيضا: “من مصر، هند الورداني تكتب: الكتابة تسحبك إليها… رغما عنك”
جل ما كتب عن العقبرية بعد ذلك، كانت فكرته الأساسية أن الذكاء المفرط ليس شرطا أساسيا لوجود العبقرية، ثم بالموازاة مع ذلك، بدأ التقييم المستنير للجنون، من خلال الوصف المنهجي، والفهم العلمي.
مع ذلك، ظل دائما ثمة من يربط بين العبقرية والجنون. الكاتب الإنجليزي روبرت بيرتون قال إن كل الشعراء والفنانين والفلاسفة مجانين. الكاتب الإنجليزي جون درايدن قال إن العقول العظيمة مرتبطة يقينا بالجنون، على نحو وثيق. الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال قال إن المفكر العظيم متهم بالجنون، تماما كالمجرم العظيم. بل إن الشاعر الفرنسي لامارتين بعد قرن ونصف من هؤلاء، كان أكثر تطرفا وهو يشير إلى هذا المرض الذي نسميه نحن عبقرية.
هؤلاء الكتاب، عبروا حينذاك بحرية عن فكرتهم هذه، لكن، لا أحد منهم فحص علاقتها بالمرض، ولا كلف نفسه عناء التحقق منها ولا تفسيرها. من هنا بالذات، ابتداءً من القرن التاسع عشر، أخذت آراء أخرى أكثر عقلانية تظهر إلى الوجود.
اقرأ أيضا: “العرب من وجهة نظر يابانية: مرآة جديدة… (الجزء الثاني)”
من بينها، رأي الفرنسي أسكيرول، أشهر طبيب نفسي في عصره. كتب في كتابه عن الأمراض العقلية:
قال درايدن إن أصحاب العبقرية والمجانين شديدو القرب من بعضهم البعض. إذا كان معنى هذا أن الذين يتمتعون بخيال نشيط جدا أو مضطرب جدا ولديهم أفكار رفيعة جدا ومتقلبة جدا، يبدون شيئا من التشابه مع المجانين، فإن هذا صحيح. لكن، إذا كان المقصود هو أن الذكاء العظيم يخلق الاستعداد للجنون، فإن هذا خطأ.
يضيف أسكيرول مؤكدا: أعظم العباقرة في العلوم والفنون وأكبر الشعراء وأنبغ الموهوبين من الرسامين، قد احتفظوا بسلامتهم العقلية إلى أرذل العمر.
تشارلز لامب: “أعظم الموهوبين… هم أعقل الكتاب دائما. من المستحيل على العقل أن يتصور أن شيكسبير كان مجنونا”.
الحق أن هذا الطبيب النفسي، خبر عددا لا يحصى من مرضى العقول، وعرف موضوعه عن كثب معرفة دقيقة. هكذا، دحض التعميم الذي ذهب فيه الرأي الذي يقرن بين العبقرية والجنون، وقدم تفسيرات للحالات التي يمكن أن يتعرض فيها العبقري للجنون.
اقرأ أيضا: “في الذكرى الثانية عشرة لوفاته.. “مرايانا” يتذكر أب الأدب العربي نجيب محفوظ!”
من جانبه، خبر، وقتها، الناقد الإنجليزي تشارلز لامب حالات المرض العقلي، وأقر باستحالة إنتاج المجانين لأعمال عظيمة. في مقال له بعنوان: “عن الصحة العقلية للعبقري الحقيقي”، نجده يكتب: بعيدا جدا عن موقف القائلين بأن الموهبة العظيمة (العبقرية) ملازمة بالضرورة للجنون، فإن أعظم الموهوبين هم على النقيض من ذلك، بل هم أعقل الكتاب دائما. من المستحيل على العقل أن يتصور أن شيكسبير كان مجنونا.
فما هي العبقرية إذن؟ هي ربما بعض مما ذكرنا، وأشياء كثيرة أخرى لا زالت بانتظار من يفسرها على نحو علمي دقيق… أو ربما:
“من لديه عبقرية لا يعرفها، والمحروم منها لا يستطيع معرفة كنهها”!
لقراءة الجزء الأول: في العبقرية: ما كنه هذا السر الغامض الذي يسمى عبقرية؟ 1\2