خيرونة الفاسية… “زعيمة” المذهب الأشعري بالمغرب
درست خيرونة العلوم الشرعية للنساء، وللرجال أيضا، بخاصة علم العقيدة، فأسهمت بذلك بجانب نساء أخريات عديدات، في تعليم المجتمع الموحدي وتثقيفه.
ليس التاريخ الحديث للمغرب وحده من يزخر بنساء صنعن-ولا زلن- بعض أمجاده. التاريخ القديم أيضا غني بأسماء لولا ما صنعته وقدمته للمغرب، ما كانت لتظل خالدة إلى اليوم. في هذا البورتريه، ننسج بعضا من حكاية امرأة، اسمها خيرونة، عاشت في العهد الموحدي، ووثّقت بعض المصادر أن لها فضلا كبيرا في انتشار المذهب الأشعري بالمغرب.
تشير مراجع تاريخية عدة، إلى أن الحركة النسائية شهدت نهضة غير مسبوقة في المغرب أثناء الحكم الموحدي. المرأة خلال هذه الفترة، سجلت تاريخا “مشرفا” من الإنجازات العلمية في مختلف مجالات الحياة، فخلدت بذلك اسمها بحروف لا تصدأ في سجلات تاريخ المغرب. إحدى هؤلاء النساء، اسمها خيرونة.
خيرونة، امرأة نزحت إلى المغرب من الأندلس في العهد الموحدي. لم تذكر المراجع تاريخ ميلادها، لكن ذلك كان –على وجه التقريب- في يوم ما من القرن السادس للهجرة، أو الثاني عشر للميلاد.
اقرأ أيضا: “أبو القاسم الجنيد، منبع الصوفية في المغرب”
خيرونة هذه، أو خيرونة الفاسية كما تقدم المراجع التاريخية اسمها، كانت ممن أتقنوا الفقه وبحثوا في أحكامه العملية، واهتموا بتزكية حياتهم الروحية، فاعتنوا بدراسة الكتب الصوفية وتقليد أئمة التصوف حتى أصبحت مع تعاقب السنين من الزاهدات العابدات، وفق ما يشير إليه جمال البختي، رئيس مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية، في كتابه “عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية”.
استجاب السلالجي لطلب خيرونة وكتب “البرهانية”. كتبها لأجل خيرونة، دون أن يعلم أن عقيدته هذه، ستصبح ذات شأن في التاريخ العقدي للغرب الإسلامي، وستلعب دورا بارزا في انتشار المذهب الأشعري فيه.
كانت خيرونة تحضر مجلس عثمان السلالجي، إمام أهل فاس في الأصول وعلم الاعتقاد؛ كما دأبت على حضور مجالس العلم بجانب حفظها للقرآن، وأصبحت ضليعة في مختلف العلوم الشرعية، من فقه وحديث وتفسير وأصول، حتى ذاع صيت غزارة علمها بين الناس.
أحبت خيرونة علم التصوف أيضا فأصبحت امرأة رائدة في التربية الباطنية، ثم اهتمت أكثر ما اهتمت، بعلمي العقيدة والكلام، وأسهمت فيما بعد في نشر التوحيد على المذهب الأشعري بين نساء أهل فاس، وفق ما يورده العلامة المغربي عبد الله كنون في كتابه “النبوغ المغربي في الأدب العربي”.
تميزت الفترة التي عاشت فيها خيرونة بفاس، بصراع بين العقائد الأشعرية التي بدأت تنفذ إلى المغرب وعقائد أهل التسليم والتفويض. توجهت خيرونة إلى السلالجي ليعرفها أكثر على المذهب الأشعري.
اقرأ أيضا: “حينما رفس القوم ابن تيمية لتجسيده “جلوس” الله 2/1”
السلالجي عرف بكونه مقلا في الكتابة، لكنه لم يرد خيرونة خائبة، فاستجاب لمطلبها، وكتب “البرهانية”. كتبها لأجل خيرونة، دون أن يعلم أن عقيدته هذه، ستصبح ذات شأن في التاريخ العقدي للغرب الإسلامي، وستلعب دورا بارزا في انتشار المذهب الأشعري فيه.
السلالجي إذ كان يكتب عقيدته، لم يكن يصوغها على هيأة كتاب، ذلك أنه كان يقدمها لخيرونة فصلا ففصلا، دون أن يضمنها مقدمة أو ديباجة. بيد أن عقيدته هذه، بمجرد أن اكتملت، بدا أنها متميزة بتأليفها المحكم، فلم تلبث حتى ذاع صيتها وانتشرت بين الناس، فسميت بـ”البرهانية”.
وقد سميت “البرهانية” كذلك، لاعتماد السلالجي فيها على البرهان العقلي في إثباته العقائد الإيمانية، معززا ذلك بالبيان النقلي من القرآن والسنة.
استطاعت خيرونة ما لم يستطعه أحد غيرها… دونها، ما كان ليعرف شيء عن أبي عمرو السلالجي، ولم يكن ليصبح ذا شأن كبير في التاريخ العقدي للغرب الإسلامي.
يقول أبو الحسن ابن مومن تلميذ السلالجي وراوي أخباره: “كان بمدينة فاس امرأة تسمى خيرونة، وكانت من الصالحات القانتات الزاهدات الغافلات المؤمنات، وكانت تعظمه وتوقره وتلزم مجلسه، فرغبت إليه أن يكتب لها في لوحها شيئا تقرأه على ما يلزمها من العقيدة، فكان يكتب لها في لوحها فصلا متى كلفته ذلك، فكانت تحفظه، فإذا حفظته ومحته كتب لها لوحا ثانيا، فكان ذلك دأبها حتى كملت عقيدة وكتبتها وكتبت عنها ولقبت بالبرهانية وصارت بأيدي الناس كثيرا”.
بعض المراجع التاريخية تشير إلى أن هذه العقيدة حين وصلت إلى يدي ابن مومن، استشار السلالجي في وضع مقدمة لها، وترتيبها في فصول لتصبح كتابا، غير أن الأخير رفض اقتراحه، خوفا من أن يصبح علمه رياءً فتضيع سمعته.
في ذلك يقول ابن مومن: “فأخذتها،-أي البرهانية،-وقام بفكري أن أرتبها فصولا وأعمل لها شبه الخطبة، ثم شاورته في ذلك فمنع منه وقال لي: لم أعترض فيها أن تكون تأليفا تكتب وتنتشر، وإنما كتبتها لخيرونة خاصة على وجه (كذا)، فإن شاء الله أن تشيع، فاتركها كما هي ولا تزد فيها شيئا فتخرج عما قصد بها”، ثم يضيف: “فتركتها كما هي”.
اقرأ أيضا: “أبو حفص: لسنا ملزمين بحصر القراءة التأويلية فيما كانت عليه المذاهب الأربعة”
هكذا، وبعدما ظل السلالجي لوقت طويل يكتفي بمجالسه، عنيدا ينأى عن التأليف والكتابة، استطاعت خيرونة ما لم يستطعه أحد غيرها بجعله يعدل عن موقفه، فكان لها الفضل في إذاعة فكر أستاذها العالم في بلاد المغرب. دونها، ما كان ليعرف شيء عن أبي عمرو السلالجي، ولم يكن ليصبح ذا شأن كبير في التاريخ العقدي للغرب الإسلامي.
درست خيرونة العلوم الشرعية للنساء، وللرجال أيضا، بخاصة علم العقيدة، فأسهمت بذلك بجانب نساء أخريات عديدات، في تعليم المجتمع الموحدي وتثقيفه.
والواقع أن العقيدة البرهانية، إن كان صاحبها قد شاء لها أن تكون عقيدة خاصة بالمرأة، ذلك أنه كتبها لخيرونة على وجه التخصيص، فإنها مع تعاقب الأزمنة، أصبحت مرجعا لا غنى عنه في المذهب الأشعري، وقد خاضت فيها العديد من الأقلام بالشروح، حتى إن المذهب الأشعري في المغرب تطور وانتشر بفضلها، حسب ما يشير إليه جمال البختي في كتابه “عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية”.
عكفت خيرونة الفاسية طوال حياتها على تدريس العلوم الشرعية للنساء، بخاصة علم العقيدة. وقد كان يأتي إليها الرجال أيضا يطلبون علمها، فأسهمت بجانب نساء أخريات عديدات، في تعليم المجتمع الموحدي وتثقيفه، إلى أن رحلت عن الحياة ذات يوم من عام 594 للهجرة.
لفضلها ومكانتها العلمية والدينية، ووريت خيرونة الثرى بجانب أستاذها السلالجي في باب فتوح بفاس، وحفظ اسمها بمداد من ذهب في سجلات التاريخ المغربي.
اقرأ أيضا: “موقع الدين في نظام الحكم بالمغرب: إمارة المؤمنين، حكاية البدايات…”